أمينة عباس – دمشق
تحت عنوان “كيف ننظر الى الفن الاسلامي .. مقاربة نقدية تتجاوز الفن الغربي ” ألقت د. هلا قصقص مؤخراً محاضرتها في المكتبة الوطنية بدمشق مشيرة فيها إلى العلاقة بين الإدراك البصري، السياق التاريخي، والبنية الرمزية التي تحكم إنتاج هذا الفن وتلقيه طارحة أسئلة تتعلق بتعريف الفن الإسلامي، وتحليله خارج الأطر الجمالية الغربية المألوفة، دون الاكتفاء بقراءة شكلية للأعمال الفنية، أو اختزالها في وظيفتها الدينية، مميزة بين النظر إليه كفن ديني مكرّس للمقدسات، وبين فهمه كفن حضاري نشأ في بيئة تستمد مرجعيتها من الإسلام، لكنها أنتجت أنماطًا فنية تعبّر عن مجالات الحياة المختلفة، وليس فقط عن المعتقدات، منوهة إلى أن هذا الفن يشمل العمارة بأنواعها، الزخرفة، المصنوعات اليدوية، الخط، المخطوطات، والفنون البصرية التي لا تتطلب أن تكون مرتبطة بنص مقدس أو مؤسسة دينية.
عدم وجود أسلوب واحد
كما تناولت قصقص في محاضرتها تنوّع الوسائط الفنية في العالم الإسلامي، وتعدّد الأقاليم التي شهدت تطور هذا الفن، مع تأكيدها على عدم وجود أسلوب واحد مهيمن، بل أنماط بصرية مختلفة تشترك في عناصر جوهرية كالتجريد، التكرار، والتناظر. هذا التنوع برأيها شمل الفنون الأندلسية والمغربية، الفارسية، المغولية، والعثمانية، مع إدماج التأثيرات المحلية في إطار مفاهيمي موحّد من حيث المرجعية الدينية، لا من حيث الشكل أو التقنية.

طبيعة الجمال
وفي المحور الثاني من المحاضرة طُرحت قصقص فكرة أن العمل الفني الإسلامي لا يُنتَج فقط ليُرى، بل ليُدرَك:”العلاقة بين المتلقي والعمل ليست علاقة استهلاك بصري، بل علاقة تأويلية فالفن الإسلامي، بخاصة في مكوّناته التجريدية، يقدّم إمكانيات واسعة للفهم تختلف باختلاف الخلفيات الثقافية، المعرفية، والدينية لمن يراه و هذا ما يجعل معنى الزخرفة، أو الخط، أو توزيع الفضاءات في العمارة، لا يُختزل في تأويل واحد، بل يخضع للتعدد والانفتاح” متوقفة قصقص عند أمثلة بصرية مقارنة حيث عُرضت إحدى لوحات عصر النهضة الأوروبي جنبًا إلى جنب مع زخارف هندسية من قصر الحمراء، ودعت الحاضرين إلى التفكير في الاختلاف بين التشخيص والرمزية، بين تمثيل الجسد البشري والتجريد الهندسي، وبين الاستخدام المباشر للصورة في الفن الغربي، والاستخدام المتأمّل للشكل في الفن الإسلامي. وقد اثار هذا المحور نقاشًا حول طبيعة الجمال، وحول ما إذا كانت معاييره مطلقة أم مرتبطة بسياق ثقافي وحضاري.
تصورً مختلفً للإبداع الفني
لم تتردد قصقص في محاضرتها من التطرق الى مسألة جدلية متعلقة بغياب اسم الفنان في الكثير من الأعمال الإسلامية :” هذا الغياب لا يُعدّ نقصًا في التوثيق، بل يعكس تصورًا مختلفًا للإبداع الفني، حيث لا يُنظر إلى العمل بوصفه تعبيرًا عن ذات الفنان، بل بوصفه جزءًا من خطاب جمالي وروحي جماعي، تشارك في إنتاجه الورش، الرعاة، والمؤسسات. والكثيرً من هذه الأعمال كانت موجّهة للاستخدام الوظيفي، الديني، أو الاحتفالي، لا للعرض الفني المستقل”.
بين الفن والعلم
توقفت قصقص في محاضرتها عند محور آخر وهو العلاقة بين الفن والعلم في التاريخ الإسلامي:” كثيرً من عناصر الفن الإسلامي – خاصة في العمارة والزخرفة – تستند إلى معرفة دقيقة بالرياضيات، الهندسة، والبصريات. فالأنماط المتكررة في الزخارف، والهياكل المعمارية مثل القباب والأروقة، تمثّل تطبيقًا مباشرًا لنظريات علمية، وتُستخدم أحيانًا لتوليد رموز دينية أو فلسفية، مثل مفهوم الاتساع الإلهي، أو وحدة الخلق” كما عرضت المحاضرة نماذج لفنون مخطوطات، منمنمات، وزخارف نباتية وهندسية، تشير إلى مستويات متعددة من التواصل بين النص البصري والنص المكتوب، بين الفن والأدب، وبين الشكل والمضمون. كما قدمت أمثلة على ارتباط هذه الأعمال بأنظمة رعاية مؤسساتية، كالأوقاف، المدارس، والسلطنة، وبيّنت كيف أن الإنتاج الفني كان جزءًا من بنية الدولة والمجتمع، وليس ظاهرة فردية أو تجارية فقط”.
الفن في الحياة اليومية
وحول مسألة تصنيف الفن الإسلامي ضمن فئات مستوردة من تاريخ الفن الغربي، مثل “الفنون الجميلة” مقابل “الفنون الزخرفية”، أو “الفن الراقي” مقابل “التطبيقي” بينت :” هذه التصنيفات لا تعكس خصوصية التجربة البصرية الإسلامية، بل تفرض عليها منظومة جمالية لم تنشأ منها، ما يتطلب مراجعة نقدية للأطر النظرية المستخدمة في قراءة هذا الفن.”.. اما مسألة الفن في الحياة اليومية، فقد رأت أن الجمال لم يكن حكرًا على القصور أو المساجد، بل امتد إلى الأسواق، البيوت، الأواني، المنسوجات، والأثاث وهذه الفنون التي قد تُصنَّف في المتاحف بوصفها “قطعًا زخرفية”، :”كانت في واقعها مكونات حية ضمن نسق اجتماعي وثقافي، تعبّر عن ذوق الطبقات المختلفة، وعن علاقاتها بالمواد، الوظيفة، والمكان”..
نتاجًا حيًّا لا أثر ساكن
وختمت قصص محاضرتها مشددة على أن دراسة الفن الإسلامي لا يمكن أن تنفصل عن دراسة السياقات التي أنتجته، ولا عن اللغة البصرية التي يستخدمها. كما دعت إلى اعتماد منهجيات متقاطعة، تشمل تاريخ الفن، الأنثروبولوجيا، العمارة، الدراسات الدينية، والتاريخ السياسي، لفهم ما تحمله هذه الأعمال من دلالات رمزية ومعرفية. مؤكدة على أهمية النظر إلى الفن الإسلامي بوصفه نتاجًا حيًّا لحضارة متعدّدة الطبقات، لا كأثر ساكن يُعرض خارج سياقه.
يذكر ان د. هلا قصقص باحثة ومحاضرة في تاريخ الفن والعمارة الاسلامية وهي عضو فريق مشروع تطوير الهوية البصرية السورية.