أحمد طنيش
وصفت رواية “الكرنك” بالجريئة والموجعة، يفتح فيها نجيب محفوظ نافذة على واحدة من أحلك فترات التاريخ السياسي والاجتماعي لمصر، وتحديدًا خلال الحقبة الناصرية في ستينيات القرن العشرين.تمَّ إنتاجها كفيلم سينمائيّ في عام 1975م، تتناول الكرنك بذكاء إبداعي وأدبي فترة عاشتها جمهوريّة مصر العربية امتدَّت بين حربيْن هما حرب النكسة التي وقعت أحداثها في عام 1967م وحرب التحرير التي وقعت أحداثها في عام 1973م، وتحكي القصة عن الاستبداد الذي ساد الأجواء السياسيّة في فترة حكم الرئيس جمال عبد الناصر وعن فساد أجهزة الأمن والمخابرات المصرية، تتناول “الكرنك” شغف وقضية شبَّان أبناء الجامعة والفكر النهضوي يتمُّ اعتقالهم دون أسباب واضحة ودون أي جريمة، إلا أنَّهم كانوا يلتقون في مقهى “الكرنك” الشهير الذي كان يلتقي فيه بعض المفكّرين وينتقدون الثورة وأخطاءها.
بذلك ف«الكرنك» ليست مجرّد عمل روائي، بل شهادة مرحلة عما جرى في الزنازين، حيث تنتهك حقوق الإنسان وتُسحق كرامته، بدعوى أمنية ومخابراتية.
تدور الأحداث في مقهى يحمل اسم “الكرنك”، وهو اسم له رمزية فرعونية حضارية، بينما يشير في الواقع إلى مقهى “ريش” الشهير في ميدان طلعت حرب، حيث اعتاد المثقفون على اللقاء وتبادل الفكر. في هذا المكان، تتلاقى مصائر عدد من الشباب الجامعي المثقف، المتحمس لفكرة الثورة وآمالها، قبل أن تصدمهم آلة القمع وتضعهم في مواجهة مباشرة مع الألم والخيانة والخذلان.
جاءت الرواية في أربعة فصول، كل فصل منها يُروى من منظور شخصية رئيسية مختلفة، مما يمنح القارئ رؤية متعددة الزوايا حول الأحداث والتجارب. بأسلوب سردي اسقاطي يحاور الواقع السياسي حينها، وهنا تكمن أبعاد الرؤية “المحفوظية” للغوص في النفس البشرية، وبذلك نجح نجيب محفوظ في إيصال وجع مرحلة كاملة من تاريخ بلدٍ كامل، من خلال حكاية مقهى وأصوات شبابه.
قليلةٌ هي النصوص الأدبية، خاصة في الروايات التي تدور على لسان الراوية في أدب نجيب محفوظ، ولعلَّ الاستثناء الواضح في هذا الأدب هو رواية «السراب» التي كتبها عام 1949م، وهي تمثِّل استثناءً في الموضوع والهوية، قياسًا على ما كتبه المؤلِّف في تلك المرحلة. تم رواية «الكرنك» المنشورة لأول مرَّة عام 1974م، والمكتوبة في ديسمبر عام 1971م، تمثل مرحلة ما بعد حركة التصحيح بعدَّة أشهر، عاد الكاتب مرَّةً أخرى إلى شخصية الراوية، وإن بدا هنا مجرد مُشاهد غير مشارك في الأحداث، هو أحد المتردِّدين إلى مقهى «الكرنك»، وهو يعترف في البداية أنه اهتدى إلى المكان عن طريق المصادفة، «عثرت على المقهى في تنقُّلي فقصدته، ومنذ تلك الساعة صار مجلسي المفضل.»
ترى بعض القراءات أن الرواية لا تنقسم إلى فصول، بل هناك أسماء أشخاص لهم علاقة بالمقهى، سواءٌ صاحبته قرنفلة، أو المتردِّدين عليه. وهو أسلوب جديد اتبعه محفوظ، وإن كانت رواية «المرايا» أقرب إلى هذا الحكْي، لكن في «الكرنك» هناك مكان بعينه، وأشخاص تتردَّد أسماؤهم من فصلٍ لآخر، على طريقة بعض أعمال “جون شتاينبك”، كاتب أمريكي ولد في ولاية كاليفورنيا عام 1902، من أشهر أدباء القرن العشرين. اشتهر بقصصه حول الحرب العالمية الثانية.
أول ما يسترعى انتباه الراوية “الكرنك” صاحبة المقهى “قرنفلة” التي كانت راقصة وقد صارت عجوزًا، كانت قبلا امرأة تمثِّل حلم الأربعينيَّات الورديَّ، لقد انطفأ فيها سحر الأنوثة، وجفَّ رونق الشباب، لكنها لا تزال تتمتَّع بخفَّة الروح، أمَّا المكان فزبائنه قِلَّة، زمنه معلق بين الماضي والحاضر.
في حوار بين صاحبة المقهى قرنفلة وبين الزبون الجديد، تمة هناك رمزيات وإشارات وقراءة في الأبعاد:
وحدث ما اعتبرته مُفاجأة سارَّة، بدا أنَّ قرنفلة أرادت مُجاملتي بصفتي زبونًا جديدًا فقامت من مجلسها وجاءتني تخطر في بنطلون كحلي وبلوزة بيضاء، وقفت أمامي وقالت: شرفت.
تصافحنا وأنا أشكر لها مجاملتها فسألتني: هل أعجبَتْك القهوة؟
فقلت بصدق: جدًّا، بن ممتاز حقًّا.
فابتسمت بسرور، ورنت إليَّ مليًّا ثم قالت: يُخيَّل إليَّ أنك تذكرتني؟
– فعلًا، من ينسى قرنفلة؟
– ولكن هل تذكرت دوري الحقيقي في الفن؟
– أجل، كنتِ أول من جدَّد في الرَّقص الشرقي.
– هل سمعت أو قرأت أحدًا ينوِّه بذلك؟
فقلت بارتباك: تُصاب الأمم أحيانًا بفقدان الذاكرة، ولكن ذلك لا يدوم إلى الأبد.
– كلام جميل ولا شيء وراء ذلك.
– ولكنني قرَّرت حقيقة لا شك فيها.
ثم تهرَّبت من الحرج قائلًا: أتمنى لكِ حياة سعيدة وهو الأهم.
فقالت ضاحكة: حتى الآن فالنهاية تبدو سعيدة.
ثم وهي تُودعني راجعة إلى كرسي الإدارة: والعلم عند علَّام الغيوب!
في النهاية يختمُ نجيب محفوظ قصة “الكرنك” بثورة التصحيح التي انتهجها الرئيس أنور السادات عندما أفرج عن المعتقلين السياسيّين وأدخلَ الضابط الذي كان يعطي أوامرَ بتعذيب الشباب وانتزاع الاعترافات المزيفة منهم إلى السجن، وفي النهاية تمَّ تحقيق الانتصار على إسرائيل واسترداد سيناء عن طريق الحرب والسلام معًا.
هو بعد تخييلي، ما زال يتطلب القراءة والتمحيص، وما زال “الكرنك” مستمرا بلبوسات أخرى، عبر الأقطار العربية.