مواضيع ذات صلة

حوار مع الناقد الفلسطيني د. محمد عبد القادر مؤلف ” غسان كنفاني : جذور العبقرية وتجلياتها الإبداعية”

حوار أجرته الصحفية السورية أمينة عباس من دمشق، بمجلة الهدف مع مؤلف كتاب ” غسان كنفاني : جذور العبقرية وتجلياتها الإبداعية”، الناقد الفلسطيني د. محمد عبد القادر، نشر في مجلة الهدف العدد (73 (1547)، وبترخيص من مجلة الهدف ننشر نص الحوار:

لا تبدو الكتابة عن المناضل والمبدع والإنسان غسان كنفاني أمرًا سهلًا بشهادة الجميع، ومع هذا فإن شهوة الكتابة عنه مبدعًا ومناضلًا لم تنطفئ، حيث تناول العديد من الكتّاب مسيرته، ولكن ما يتفق عليه النقاد أن كتاب “جذور العبقرية وتجلياتها الإبداعية” للناقد الفلسطيني د. محمد عبد القادر هو أحد أهم هذه الكتب، حيث لم يكن مجرد احتفاء بشهيدنا، وإنما كان بحثًا دقيقًا في تحليل عبقريته، وبانوراما عنه كإنسانٍ ومناضلٍ ومبدع، إلى جانب ما ضمّه من آراء نقدية لعددٍ من النقاد والأدباء حول تجربته وأعماله.
في حوارنا مع كاتبه د. محمد عبد القادر سنتعرف أكثر على هذا الكتاب وما حمله من عنوان.

1ـ نود أن تعود بنا إلى كواليس إنجاز هذا الكتاب. كيف وُلد؟ ولماذا؟

**كنتُ في مطالع السبعينيات طالبًا في جامعة الكويت – قسم اللغة الإنجليزية – حين بدأت الاطلاع على أدب وحياة غسان كنفاني، وكان ذلك بعد استشهاده الذي ألهم اتحاد الكتّاب الفلسطينيين بأن يصوغوا شعار “بالدم نكتب لفلسطين”، ومنذ أوائل السبعينيات أصبح غسان كنفاني محط تركيزي الرئيسي في الأدب، والسياسة، والرسم، والملصق، والدور، والإيثار، والكتابة، وكل القدرات التي توافرت لغسان أصبحت محط اهتمامي ومتابعتي، في الجامعة قرأناه، وناقشناه، وأقمنا له المعارض، وتواصلت النشاطات الخاصة بغسان، فصار استشهاده مناسبة وطنية وقومية يتم إحياؤها في كل عام.
قرأتُ كل ما كتبه من روايات وقصص ودراسات ونقد، وتابعت بقدر ما استطعت الكثير مما كُتب عنه، وما كُتب عنه وعن أدبه كثير، فصار غسان جزءًا من حياتي اليومية وكتبتُ عنه في الصحف الكويتية، وفي “الهدف”، وشاركت في العديد من الندوات والمحاضرات، وفي كل نشاط كنت أتعلم، وأستفيد، وأراكم معرفة وخبرة، إلى أن شعرت أن ما تراكم حبًّا وإعجابًا بهذا العبقري العظيم ينبغي أن يترجم نفسه كتابًا شاملًا.
ربما تأخر المشروع، والسبب ضيق الوقت حين اتسعت مسؤولياتي في مجال عملي وتعددت مهماتي التربوية، لكن الهدف لم يتراجع، وحين بلغتُ مرحلة التقاعد، ومع توافر الوقت، أعدتُ قراءة غسان بكل ما كتب، وكل ما امتلكت من مراجع ودراسات، واستغرقت في كتابة فصول الكتاب أقل من سنتين، وتفضّل الصديق المبدع إبراهيم نصر الله بكتابة افتتاحية معبّرة، وتبنت “الدار العربية للعلوم” طباعة الكتاب وتوزيعه عام 2015، ثم أصدرته بطبعة جديدة وزارة الثقافة الفلسطينية في عام 2020.

2ـ اليوم وبعد مرور عدة سنوات على إصداره، لو قُدّر لك أن تعيد طباعته مرة أخرى بطبعة جديدة، ماذا يمكن لك أن تضيف؟

**لقد حصرتُ هذه الإضافات منذ فترة، وأحسب أنني سأضيف فصلًا عن غسان الناقد الأدبي الساخر، وعن غسان وقصص الأطفال، علاوةً على إضافة ملحق بصور شخصية تلتقط مراحل ونشاطات في زمن غسان الثري.

 

3ـ أهديتَ الكتاب إلى “آني” زوجة غسان كنفاني. ماذا أردت أن تقول من خلال هذا الإهداء؟

**كثيرون يستحقون الإهداء: شهداء، وقادة، ومفكرون، ومناضلون، وآني بصورة أو بأخرى واحدة من هؤلاء، فهي رفيقة دربه التي ضحّت بالكثير حبًّا بغسان وقضيته وشعبه، وهي التي تحملت كثيرًا من تأخره اليومي، وانشغالاته، وتعدد اهتماماته، وقلة الوقت المكرس لها ولابنهما فايز وابنتهما ليلى.. كانت” آني” معه في حياته، وكانت معه وله ول فلسطين وأطفالها بعد استشهاده، كما شاركت ورعت مؤسسة غسان كنفاني الثقافية، وأنشأت رياض أطفال في المخيمات الفلسطينية، وسافرت وتنقلت حاملة معها القضية الفلسطينية واحتياجات أطفال المخيمات..كان الإهداء لها، ولكنه إهداء لكل المناضلات والمناضلين الأمميين الذين وهبوا فلسطين حياتهم وآمنوا بقضيتها. هو إهداء وتكريم لها ولهم ولهن من وطن الشعب الفلسطيني الذي أحب غسان، فوهبه غسان حياته.

4ـ كان سؤال الخاتمة في الكتاب: “ما سر هذا الألق الدائم لغسان كنفاني؟” واليوم نعود لنعيد السؤال نفسه عليك: أيّ سرّ يمتلكه غسان لتتجدد حيواته في ذاكرتنا؟

**دعيني أقدّم إجابة محددة في نقاط، لغاية التركيز وتسليط الضوء على أبرز الجوانب في حياة غسان وإبداعه: كان غسان رائدًا في كل ما كتب: في الرواية، والقصة، والدراسات عن الأدب الصهيوني وأدب المقاومة، وثورة 1936 وغيرها الكثير، فهو نقل الأدب الفلسطيني إلى مرحلة متقدمة، واقتحم عالم الرواية الحديثة، والمسرح الذهني، ودرس الواقع السياسي الفلسطيني والصهيوني والعربي والأممي فكان عبقريًّا بلا حدود، ذا مواهب متعددة ومركبة، وعقلية تحليلية بنائية قلّ مثيلها، وكان قدوةً ومعلّمًا وملهمًا ومبدعًا، نقل الأدب إلى مرتبة الدم، وكان قائدًا فذًّا، عميقًا، متفانيًا، متعدد المهام، ومبدعًا في إقامة علاقات سياسية وإنسانية ومهنية مع العالم المحيط..وسأكتفي بهذه النقاط لأن القائمة لا تنتهي.

5ـ ولكن ما الذي جعلك تقول في الكتاب إن غسان وُلد فيلسوفاً؟

**الفيلسوف له رؤيا في الحياة والإبداع والدور والقيم، وبالذات قيم التحرر والكرامة والأخلاق والصدق، وترجمة القيم إلى سلوك، والظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والذكاء والنباهة الذاتية، وربط ذلك كله بالواقع المعيشي، جعل غسان فيلسوفًا. فهو وُلد مفكرًا، يقظًا، منتميًا، مجددًا، متجاوزًا، وقارئًا، ومحبًا، وعاشقًا للفلسفة، توقف عند الوجودية، وخطا إلى الماركسية والواقعية الاشتراكية في الأدب والفن والثقافة.

6ـ مارس غسان كنفاني الشعر ناقدًا. كيف تفسر ابتعاده عن كتابته؟ لماذا لم يكن شاعرًا؟

** كان ذلك خياره، وكانت تلك موهبته التي تقوده حيث يمكنه أن يُبدع. لقد أحب غسان الشعر الوطني الفلسطيني، ورأى فيه تجاوزًا للشعر العربي التقليدي، ودرسه، وحلّله، وأوضح مكامن إبداعه وتميّزه. أحب قصائد محمود درويش، وسميح القاسم، وزياد وغيرهم، بل إنه هو الذي كان له شرف الريادة في التعرّف إليهم وتعريف العالم بهم.

7ـ كمترجم في رصيدك عدة ترجمات، إذا أردت اليوم أن تختار من أدب غسان كنفاني لتترجمه، فماذا تختار لتقدمه للعالم الآخر؟

**أما عن رغبتي في الترجمة، لو أتيح لي مجال اختيار شيء من أعمال غسان، وأعماله مترجمة إلى عدة لغات، فسوف أحرص على ترجمة قصصه القصيرة جميعها، لأنها قصص عالمية بامتياز.

8ـ أكدت في الكتاب أن أبرز مظاهر الإبداع الكنفاني، وأوضح تجليات عبقريته الأدبية، تتجسد في إنتاجه القصصي القصير. فما الذي ميّز كنفاني القاص؟

**بعيدًا عن الأعمال الإبداعية الأخرى التي أنتجها غسان كنفاني، إلا أنه – كما يبدو لي – عاش حياته في دنيا القصة القصيرة والسرد النثري القصصي، ما يدعو للقول دون شطط إن أبرز مظاهر الإبداع الكنفاني، وأوضح تجليات عبقريته الأدبية، تتجسد في إنتاجه القصصي القصير، ويمثل المجلد الثاني لأعماله جملة ذخيرته القصصية، وهو الذي يضم: “موت سرير رقم 12 عام 1961، أرض البرتقال الحزين 1962، عالم ليس لنا 1965، عن الرجال والبنادق 1968، وقصص أخرى جُمعت ونُشرت بعد استشهاده” ووتوحي تواريخ صدور مجموعات غسان القصصية بالعبقرية الفنية المبكرة لهذا المبدع في كتابة القصة القصيرة، فقد صدرت المجموعة الأولى فيما كان غسان في الخامسة والعشرين، ثم تتابعت المجموعات عندما كان في السادسة والعشرين، والتاسعة والعشرين، والثانية والثلاثين، على أن مؤشرات العبقرية القصصية تتمثل في أن المجموعة الأولى كانت مذهلة من حيث البناء واللغة والموضوع، وتجاوزت الإرهاصات الأولى التي عادة ما تدمغ نتاج كاتب شاب. وكذلك كانت المجموعات اللاحقة، مع الإشارة إلى أن القصص ذاتها كُتبت قبل تاريخ نشر المجموعة بسنوات، فهناك قصص نُشرت في عام 1956، وعام 1957، وعام 1958، أي قبل سنة النشر بعدة سنوات، وهناك شهادات شخصية من قبل أخيه عدنان كنفاني، أن غسان كتب التمثيلية، والقصة، والمسرحية، عندما كان ما يزال طالبًا في المرحلة الإعدادية في دمشق، وبعضها قُدّم في الإذاعة السورية، وعليه يمكن القول إن إرهاصات العبقرية القصصية عند غسان قد بدأت في البروز عندما كان في الخامسة عشرة من عمره، وكانت تنمّ عن موهبته الواعدة، ثم ما لبثت أن تألّقت بعد أن بلغ سن العشرين، ولدى تتبّعي لسنوات الكتابة القصصية عند غسان، تبين لي أنه لم يكتب القصة في العديد من السنوات، وتفسير هذا التراجع الكمي للمنجز القصصي لغسان يُعزى، فيما أعتقد، إلى تعدد إنجازاته واهتماماته ومسؤولياته، وعنايته الخاصة بالرواية وأهميتها في صوغ الهوية الوطنية، واتساعها للتجربة الإنسانية، إلى جانب إقبال الصحف والمجلات اللبنانية على كتاباته واستكتابها له، وكذلك مسؤولياته الحزبية والتنظيمية في إطار حركة القوميين العرب، ومن ثم في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، وإصدار مجلة “الهدف” وتسلّمه رئاسة التحرير فيها، واضطراره إلى تغطية النقص في أبوابها من خلال كتاباته ومتابعاته، بالإضافة إلى انشغاله بالكتابة النقدية والسياسية والبحثية الجادة والريادية في ذات الوقت.

9ـ كان غسان كنفاني رائدًا مبدعًا في مجال الدراسات، كما جاء في الكتاب، وقد وصفتَ أربع دراسات تحليلية له بالريادية. حبذا لو تحدثنا أكثر عن هذه الدراسات وريادة كنفاني فيها؟

**اقتحم غسان كنفاني مجال الدراسات الأدبية، والنقدية، والتاريخية – التحليلية، وقد توقفتُ عند دراساته الأربع: أدب المقاومة في فلسطين المحتلة، الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال، في الأدب الصهيوني، ثورة 1936 في فلسطين: خلفيات وتفاصيل وتحليل، لأنها كانت دراسات ريادية نوعية، جديدة، ولم تكن أعمالًا تقليدية هامشية في الموضوعات التي طرقتها، إن هذه الريادة، والجدة، والإضافة النوعية، هي من سمات الذهن المنفتح، والمتوقد، والذي ينطوي على قدرات تحليلية عالية، تمنح المنجز المعرفي الذي يقدّمه صاحبُه مكانةً أساسية في ثقافة الشعب والأمة، والثقافة الإنسانية على اتساعها، وهذه الدراسات كان غسان كنفاني أول من قدمها لجمهور القراء، وأول من عرّف العالم بوجود أدب مقاوم في فلسطين المحتلة، والريادة بهذا البُعد تعني أنها دراسات جديدة في موضوعها، وأشخاصها، ومعالجتها، ومعانيها، ودلالاتها، وبالتالي فهي إضافة نوعية إلى السفر الثقافي الذي يحتوي المنجز الأدبي الفلسطيني على مدى عقود ماضية، وما من شك في أن الدراسات اللاحقة التي كتبها باحثون فلسطينيون وعرب في الموضوعات ذاتها المذكورة أعلاه، إنما اعتمدت على ما كتب غسان، وكانت نقطة البداية هي ما كتب غسان وهذا بحد ذاته اعتراف بريادته، ودوره الذي لا نبالغ إن وصفناه بالدور التأسيسي، وهو وصف لا يتأتّى إلا لمن تمتع بقوة الذهن، ورهافة الحس، ونفاذ الرؤيا، وعمق الانتماء.

10ـ عُدّت دراسته عن الأدب الصهيوني، حسب النقاد، أول دراسة بقلم عربي وباللغة العربية، في الأدب الصهيوني، بأساليبه وفنونه ومراميه السياسية العدوانية. فماذا تحدثنا عنه؟

**صدرت الدراسة في كتاب طُبع لأول مرة في عام 1967، وكان ذلك في أوج هزيمة حزيران من ذلك العام. وعند صدوره وحتى اليوم، مثّل الكتاب إنجازاً ريادياً لم يسبق غسانَ إليه أحد في موضوع الدراسة، دون أن نتجاهل الدراسات السياسية العديدة في الحركة الصهيونية ونشأتها وتطورها واستراتيجياتها وأبعادها التي كُتبت باللغة العربية في بيروت والقاهرة وبغداد. ومفاد ذلك أن “غسان”، في الوقت الذي كان يفتح فيه ثغرة في جدار الحصار الصهيوني للمثقفين الفلسطينيين الشباب في الأرض المحتلة، كان يفكر في توسيع هذه الثغرة عن طريق دراسة الأدب الصهيوني، وكشف أضاليله ونفاقه وخداعه. وكأنه، في سعيه لنشر الأدب الفلسطيني المقاوم ودراسته وتحليله، كان يُسهم في تمتين لحمة الهوية الفلسطينية في الداخل وفي الشتات، وفي تعميق النسيج الثقافي للصامدين في الوطن واللاجئين وفي المنافي. وفي قراءته للأدب الصهيوني، كان يُعري المزاعم الزائفة التي تتحدث عن “ثقافة يهودية”، و”شعب يهودي”، و”تاريخ يهودي”، و”حق يهودي”، والتي صارت جزءاً بنيوياً في الأدب الصهيوني ليثبت أنه عقل فلسطيني يحفر في العمق، ويُفند الزيف والتضليل.

11ـ كيف أنجز غسان هذه الدراسة برأيك لتكون من الدراسات الرائدة؟

**لأنه كاتب يقظ، وباحث متبصر، وضع لنفسه محددات أساسية في تناوله للأدب الصهيوني، أولها: عدم الاعتماد على مصدر واحد لتجنب التعميم، والعمل على توفير ما أمكن من المصادر ذات الصلة بالموضوع. وثانيها: المحافظة على موضوعية القراءة والاستخلاصات، بالرغم من أنه طرف مباشر في القضية. وهذا يؤكد الوعي بالشروط المنهجية للكتابة ومحددات البحث العلمي، حين التزم غسان بأخلاقيات البحث، وشروط الصدق في الوصول إلى نتائج معينة استناداً إلى مقدمات سليمة. وهكذا كتب غسان هذه الدراسة مسلحاً بقيم الأمانة، والدقة، والصدق، وقبل كل شيء بالوعي العميق، سياسياً وأدبياً ونقدياً ولغوياً. وأثبت أنه قادر على التعامل مع النصوص الإنجليزية بجدارة واقتدار، وكل هذا نابع في الأساس من ثقته المطلقة بعدالة قضيته. وقد ابتدأ كتابه بمقدمة لا تزيد عن ثماني صفحات أو أقل قليلاً، ولكن هذه المقدمة تمثل عصارة الدراسة كلها، وتتضمن الاستنتاجات الرئيسية للبحث، وهي استنتاجات علمية استراتيجية جرد فيها غسان كل هذا الأدب الصهيوني من أسسه “المنهجية”، وقوّض أركانه الفكرية والتاريخية، وكشف مرتكزاته العنصرية ومزاعمه المضللة وخواءه الأخلاقي، بل وهشاشته الفنية أيضاً. وقد أوضحت هذه الدراسة مدى إحساسه بالمسؤولية الثقافية، وأهمية الصمود على مستوى الجبهة الثقافية، وضرورة الوعي بالثقافة المعادية، والتصدي لها بمنطق واضح، وبمعالجة نقدية رصينة، وموضوعية عالية حتى لا تسقط تحت سياط المبالغة والإسفاف والإنكار. وأثبت غسان أنه يتمتع بقدرات ذهنية تحليلية عميقة، قادرة على تعرية الصريح وكشف المضمر في الرواية الصهيونية.

12ـ حرصت في كتابك على تسليط الضوء على ما كتبه غسان للمسرح، فأي ملامح كانت لهذه الكتابات؟

**من اليسير على من يتأمل أعمال غسان المسرحية أن يخلص إلى الطبيعة الذهنية التي ميزت أعماله المسرحية، والتي تُصنّف عادة ضمن النوع المعروف بـ”المسرح الذهني”، والذي كان أبرز ممثليه العرب توفيق الحكيم. وأبرز سمات هذا المسرح أنه مسرح أفكار، يدور أساساً في ذهن الكاتب، وبالتالي تُجسده شخصيات مسرحية، علماً أنه من الصعب أن يُترجم عملياً على خشبة المسرح. والمسرحيات التي كتبها غسان كنفاني تتسم بهذه الصفات بصورة عامة، وتحتاج إلى تركيز ذهني شديد عند قراءتها، فهي مكثفة في مفرداتها، عميقة في دلالاتها، فلسفية في مرجعياتها الفكرية. ولعل ريادة غسان في الكتابة المسرحية تتمثل في أنه أول الكُتّاب الفلسطينيين الذين ارتادوا مجال المسرح الذهني في الساحة الثقافية الفلسطينية، الذي يتناول الحالة الفلسطينية بصورة غير مباشرة. فالمعاني الإنسانية الكبرى التي تتضمنها مسرحيات غسان تشير بالرمز إلى الوضعية الفلسطينية، وإن لم تُقدّم مؤشرات خاصة دالة على ذلك. وأعتقد أن كتابة غسان المسرحية جاءت لعدة أسباب، منها أنه كان يعيش دائماً حالة التحدي الأدبي والفكري، ولا يتردد في خوض غمار تجربة جديدة، أو نوع أدبي لم يسبق له أن ارتاده. كما أنه رأى في الكتابة المسرحية الذهنية مجالاً رحباً يُعبّر فيه عن أفكاره الفلسفية، وعن تصوره للحياة، والمعاناة الإنسانية الكونية، بعيداً عن المضامين السياسية والوطنية التي ميزت أعماله الروائية وكثيراً من أعماله القصصية. ولذا لم يعبأ بتجسيد مسرحياته على خشبة المسرح، بقدر ما كان يريد لقرائه أن يُمسرحوها في أذهانهم. مع الإشارة إلى أن غسان كتب ثلاث مسرحيات، هي على التوالي: “الباب” (1964)، “جسر إلى الأبد” (1965)، و”القبعة والنبي”، كُتبت عام 1967 ونُشرت بعد استشهاده.

13ـ يقول إبراهيم نصر الله، الذي قدّم للكتاب: “الكتاب يطمح إلى فتح أبواب جديدة لتأمّل الظاهرة الكنفانية، التي مرّت في حياتنا كشهاب، وعاشت في قلوبنا كشمس”. فهل يمكن أن يتكرر النموذج الكنفاني برأيك؟

**لا، بالطبع لا. البشر لا يُستنسخون، والمبدعون لا يتكررون، لأن الأصل في الإبداع هو التفرد والتميز واختلاف أساليب التعبير والتواصل، دون أن ننسى أن الكُتّاب الفلسطينيين – معظمهم – مرتبطون بالقضية ويجترحون موضوعاتهم وأساليبهم في الرواية والقصة والشعر والمسرح والفنون. ولست أعرف أدباً وطنياً أو قومياً أنتج من المبدعين أكثر مما أنتجه الفلسطينيون في الوطن أو المنفى أو المهاجر، حيث يكتب الأدباء هناك بلغة الوطن المضيف. إن مصادر الأدب والفن والثقافة الفلسطينية – من دون أي بُعد عنصري أو قُطري – مصادر متعددة ووفيرة وثرية، ومنتشرة في كل أقطار العالم. لكن، دون شك، كان غسان واحداً من المعلمين النادرين لهؤلاء المبدعين، وهو الذي لم يشأ أن يكون معلماً لأحد، لكنه كان مُلهِماً لهم جميعاً.

14ـ تقول: “توج غسان كنفاني وعيه ببلوغه الرؤيا الإنسانية في النضال الوطني وفي المنجز الإبداعي”. كيف ترجم ذلك؟

**ترجم ذلك من خلال وعيه المتطور للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية وطنية في الأساس، لكنها اتسعت في رؤياه لتغدو قضية إنسانية. فالظلم الذي وقع على الفلسطيني هو تكثيف للظلم الواقع على الإنسانية برمتها، والمعاناة الفلسطينية هي صورة مصغّرة للمعاناة الإنسانية بعامة، وهو الذي أوضح ذلك بقوله: “أصبحت أرى في فلسطين رمزاً إنسانياً متكاملاً. فأنا عندما أكتب عن عائلة فلسطينية، فإنما أكتب في الواقع عن تجربة إنسانية. ولا توجد حادثة في العالم غير ممثلة في المأساة الفلسطينية. وعندما أُصوّر بؤس الفلسطينيين، فأنا في الحقيقة أستعرض الفلسطيني كرمز للبؤس في العالم أجمع”. وينطوي كلام غسان على معنى واضح، مفاده أن الفلسطيني إذ يكافح من أجل تحرره، إنما يُثري التجربة الإنسانية التحررية. وهو، في كل ما كتب – تقريباً – كان يرمي إلى تحرير الذات الإنسانية من قيود الوهم والخوف والمصالح الذاتية الضيقة، مؤكداً أن البدائل تتمثل في الفعل والمبادرة، وإيثار الموت الإيجابي (الاستشهاد) على الموت السلبي. كما آمن وكتب ودعا إلى تحرير العقل الإنساني من نير الأساطير والتقاليد المتخلفة، والجمود الفكري والعقائدي، والدجل والشعوذة، مُحرّضاً على الانفتاح والعلم والإبداع وطريق الثورة والكفاح من أجل الحقوق والحريات.

15ـ لك مجموعة من الكتب الصادرة في مجال النقد الأدبي، لذلك أسألك:
هل أنصف النقد تجربة غسان كنفاني؟

**بصدق وبصراحة بالغة، أقول: نعم، لقد حظي غسان، كما لم يحظَ غيره، بمئات الدراسات وعشرات الكتب المتخصصة، وربما آلاف المقالات الصحفية. أما ما لا يعرفه الكثيرون، فإن الدراسات الأكاديمية الجامعية، باللغة العربية ولغات أخرى، في الجامعات العربية والعريقة، أكثر من أن تُحصى أو تُحصر، وهي ما تزال كنزاً ثميناً لم يُكتشف، وبخاصة في جامعات شمال إفريقيا العربية.

16ـ أنهيتَ الكتاب بالقول: غسان كنفاني عبقرية الحياة.. وعبقرية الإبداع.. وعبقرية الموت.

**غسان كره الموت وأحب الحياة، لكنه طالما كره الموت “السلبي” بمرض أو حادث أو شيخوخة. وفي الحالة الفلسطينية، آمن بأن على الفلسطيني ألا يموت موتاً سلبياً، وبديل ذلك هو الاستشهاد، وغسان اختار موته ولم يختره الموت. غسان أهم داعية فلسطيني للشهادة، واختار الموت لنفسه استشهاداً، وهنا تكمن الفاعلية الكنفانية، لأن اختيار شكل الموت قرار ذاتي يعبر عن تحقق ذروة الوجود. والاستشهاد كان التتويج الأسمى لجميع عناصر التكوين والفاعلية التي شكلت غسان كنفاني، الذي، باستشهاده الريادي في أوساط المثقفين الفلسطينيين، ارتقى بمكانة المثقف وبدور الثقافة، مثلما ارتقى بالحبر إلى منزلة الدم.

17ـ من وحي سيرة غسان كنفاني، ماذا تقول للأجيال الجديدة؟

**اقرأوا قصص غسان ورواياته وسيرته، واحفظوها كما تحافظون على حدقات عيونكم، واقتدوا بسيرته حيّاً وشهيداً، كي تكونوا جديرين بفلسطين والحياة.
د.محمد عبد القادر
ناقد أدبي ومترجم وصحفي فلسطيني، حاصل على شهادة الدكتوراة في الإدارة التربوية من جامعة عمان العربية، عمل رئيسًا لبرنامج التربية والتعليم للأونروا في الأردن، ومحررا للأخبار باللغة الإنجليزية في وكالة الأنباء الكويتية (كونا)، أصدر عدداً من المؤلفات النقدية الأدبية من أبرزها: غسان كنفاني جذور العبقرية وتجلياتها الإبداعية، جماليات الرمز والتخييل، فضاء التجاوز. وفي الترجمة أصدر: الولع بالزنبق، ارتقاء التقدم، الاستعداد للقرن الحادي والعشرين.