(أين الطريقُ إلى أيّ شيء؟)
الناقد د. ثائر عود ة ـ دمشق
من غير الممكن بل من المستحيل التفكير بمحمود درويش دون التفكير مباشرة في فلسطين وفي المأساة الرهيبة التي حلَّت بشعبها، وإنَّ الاتساق عينَه ينطبق على الكتابة عنه؛ إذ لا يمكن الفصل بين الشاعر ووطنه، ولا يمكن الحديث عن فلسطين دون الحديث عن درويش الذي صاغ بنى شعرية متعددة المرايا تتبنَّى رؤى عالمية مذهلة أنتجت قاموساً شعرياً فريداً يلامس كلّ إنسان مقهور مظلوم في أيّ بقعة من بقاع العالم. من هنا تبدو الإحاطة بمفاصل عالم درويش الشعري الذي امتد، نحو نصف قرن، مهمة عسيرة بل عصية لأننا في حضرة شاعر مليء “يتمشى داخل قصيدته”، ليملأ الدنيا ويُشغل الناس منذ أن صرخ “سجّل أنا عربي” وانتهى بـ “فكّر بغيرك”…
مفاصل … ملامح … سمات لا يمكن أن نمرّ بجوارها فحسب، وإن كان لابد من ذلك فإننا إزاء تجربة فريدة عنوانها الرئيس: (التشكيل الزمني) أو إعادة كتابة (الزمن الفلسطيني)، لأن الزمن إحدى الرسائل الرئيسية التي صنعت عالم القصيدة الدرويشية وشكلته في مواجهة عالم الواقع… إحساسٌ عالٍ بالزمن دون العودة إلى الماضي والبكاء عليه، بل رفض اللحظة الراهنة وتطلُّع بعطشٍ إلى الآتي، وهذا العطش يسقي بذور التحول والرفض في شعره ويجنح نحو المستقبل في مقابل العجز والضيق اللذين تفرضها اللحظة الراهنة (تَضِيقُ بِنَا الأرْضُ/ تَحْشُرُنَا فِي المَمَرِّ الأَخِيرِ/ فَنَخْلعُ أَعْضَاءَنَا كَيْ نَمُرَّ). فالزمن الحاضر هو الضعف والانهيار، وما يفعله درويش ليس الانكفاء نحو الماضي بل البحث عن لحظة الانطلاق نحو استشراف المستقبل الذي يحمل بقية من أمل في استرجاع كلّ ما ضاع، واستعادة الهوية التي يجب أن تعود.
ومن الطبيعي أن يوظّف هذا التشكيلُ الزمني كلَّ البنى الاستفهامية التي تطرح تساؤلات جديرة بالتأمل، وتكرّس أهم ملامح الخصوصية لديه، فاللحظة الراهنة المرتبطة بفكرة الفقد والخوف من الواقع الراهن جعلته يؤسس لحالة رفض ضد لا منطقية ما يحدث له ولشعبه مستخدماً صيغ الاستفهام التي لا يريد من خلالها أن يعرف الأسباب قدر ما يريد أن يستنكر محاولات وأد القصيدة والشاعر، وفي هذا الاستفهام الاستنكاري الإنكاري تعبير عن الصراع بين الفلسطيني والعالم، بل محاولة احتجاج هادئ حيناً وصاخب غاضب أحياناً على غياب منطقية التاريخ، كون هذه المفارقة التناقضية لا تتضح إلا بالسؤال الذي لا يُثار رغبة بالمعرفة قدر ما يكون تشكيلاً لهذه المفارقات وبسطاً لها بين يدي الإنسان، إذ ينقلب كلُّ شيء إلى نقيضه في حركة غير معللة لا يعبّر عن مفارقتها للمنطق سوى الاستفهام، وفي تتابع وحدات الاستفهام يتشكل نوع من الرغبة في الاستقرار مقابل الإحساس بالضياع، ضياع البيت وكل جزئيات البيئة من بشر وحيوان وطبيعة: “يا أبي هل غابة الزيتون تحمينا إذا جاء المطر؟” – “هل تنبت الأشجار في ظل الصليب؟” – “لماذا تركت الحصان وحيداً يا أبي؟” – “مَن أنا بعد هذا الرحيل الجماعي؟”…. إنّ تداعي هذه الأسئلة وغيرها الكثير يتجاوز حدود البحث عن الإجابات السهلة والقديمة بل يعكس كيف تفارق الفطرة كلَّ ما يقوم به هؤلاء الغرباء؟
لقد شكّل درويش بوجدانه ومشاعره وقدراته التعبيرية ظاهرة شعرية عالمية تزداد مع الأيام ألقاً وبريقاً، وتقع في الضمير الإنساني موقع المأساة التي حوّلتها القصائد الدرويشية إلى ملاحم تقارب الأساطير في شكلها الخاص الذي يعلن أنّ ممارسة الحق الإنساني في أبسط صوره أصبح ضرباً من الجنون في مواجهة فجور هذا الغريب. لذلك تضعنا أسئلته الزاخمة قبالة الذاكرة وتدفعنا في كثير من التحريض إلى الحفاظ على ذاكرتنا كونه شرطاً للحفاظ على حياتنا ووجودنا لأننا أبناء “أم البدايات”، ولأنّ التمسك بالحق مع قليل أو كثير من الأمل الذي اشتغل عليه درويش طوال حياته الشعرية، سيمنح القوة اللازمة لتبصير الطريق الذي يجب أن يسلكه الفلسطيني ويرتاح من تعب السؤال المرهق “أين الطريقُ إلى أيّ شيء؟” وليعلن عن وجوده وحقه وكينونته، كي يبقى الوطن ويبقى للغريب أن يأخذ قدر ما يشاء من دمنا وينصرف.