مواضيع ذات صلة

محمود درويش، صوت الصدى التاريخي العابر للزمن

حفصة الغزواني

في كلّ عام، بعد سنة 2008، تعود ذكرى رحيل محمود درويش كأنها امتحان للذاكرة العربية. واليوم تصل هذه الذكرى إلى العد 17، أي سبعة عشر من الغياب بقيمة الحضور، ليس لأنه مجرد شاعر من فلسطين، بل لأنه الشاعر الذي استطاع أن يتكلم باسم ملايين العرب، والبلايير البشرية، والدليل أن شعره ترجم إلى كل اللغات وتداولته كل الألسن، بشعره يتحوّل الألم الفردي إلى نشيد جماعي. حين كتب “سجّل أنا عربي”، لم تكن فقط صرخة فلسطيني في وجه المحتل، بل كانت صوتًا للكرامة العربية المجروحة، التي تبحث عن معنى وسط ركام الهزائم.
لم يكن درويش شاعرًا عاديا. وُلد في قرية البروة، لكن قصيدته تخطت حدود الجغرافيا، ولامست الإنسان العربي في أعمق لحظاته، سواء كان في بيروت المحاصَرة، أو في بغداد الموجوعة، أو في شوارع الرباط والقاهرة ودمشق. لم يكن بحاجة إلى أن يغيّر موضوعه كي يُفهَم، لأن فلسطين عنده لم تكن فقط خريطة، بل كانت استعارة لكل ما ينكسر داخلنا، نحن أبناء هذه الأرض التي لا تنام.
في شعره، يتحدث محمود درويش بصيغة الجمع دون أن يفقد الفرد. “نحن” عنده ليست شعارًا سياسيا، بل تجربة شعورية حيّة. جعل القارئ يحس أنه معنيّ بكل قصيدة، وأن جُرحه الشخصي يجد صدى في بيت شعري. لهذا السبب، استطاع أن يصبح شاعر الأمة، لا لأن أحدًا منحه اللقب، بل لأن قرّاءه، من مختلف الدول والانتماءات، رأوا أنفسهم فيه.
تجربته تطورت بشكل ملحوظ، من شاعر المقاومة المباشِرة، إلى شاعر التأمل، والفقد، والقلق، والحب. لكنه ظل وفيًّا لقضايا الإنسان العربي، بصوت هادئ أحيانًا، ساخر أحيانًا، صارخ أحيانًا، لكنه صادق دائما. لم يكن يتردد في نقد السياسي، ورفض أن يكون تابعًا لأي سلطة، حتى حين كان قريبًا منها. اختار أن يظل شاعرًا حرًّا، يُعبّر لا فقط عما يحدث، بل عما نشعر به تجاه ما يحدث.
محمود درويش لم يكن فقط كاتبًا للقصيدة، بل كان جزءًا من الوجدان العام وشطر من بيت القصيد. هو الذي علّمنا أن الشعر يمكن أن يكون وطنًا، وأن الهوية لا تحتاج إلى بطاقة، بل إلى كلمة تُقال في الوقت الصحيح، بالصدق الصحيح في اللحظة الصحيحة، لهذا، وبعد سنوات من الغياب، ما زالت قصائده تُتداول، وما زال صوته يُقرأ كأنه بيننا في كل لحظة لأنه صار صوتًا جماعيًا، ممتدًا فينا..