مواضيع ذات صلة

محمود درويش، في الشام لا أعرف كيف أبدأ وكيف أنهي

أمينة عباس – دمشق

لم تكن علاقة محمود درويش بدمشق عادية، وهي التي كتب عنها العديد من القصائد، وقد ارتبط اسمه عند أجيال كثيرة فيها بالقضية الفلسطينية، ولطالما كُتبت أشعاره على حيطان المدارس، ورُددت قصائده في مسابقات الشعر وعلى المنابر.

التغني باسم دمشق

كانت زياراته وأمسياته الشعرية إلى دمشق وبقية المحافظات السورية كحلب واللاذقية تُعد حدثًا عظيمًا واستثنائيًا، يستنفر فيها محبوه وعشاقه، ولذلك كانت غالبًا ما تُقام في الملاعب التي يحتشد فيها معجبوه بالآلاف، يرددون معه قصائده التي حفظوها عن ظهر قلب. وهذا ما جعله، في أمسية شعرية أقامها عام 2004، يستهل حديثه قائلًا: “كلما سئلت: هل ما زال الشعر ممكنًا وضروريًا، جئت إلى سورية لأعثر على الجواب”. ليعود في العام التالي 2005 ليقيم أمسية أخرى على هامش افتتاح معرض الكتاب الدولي في المكتبة الوطنية، وهي الأمسية الأخيرة التي أحياها في دمشق، وقام التلفزيون السوري بنقلها على الهواء مباشرة، وقد افتتحها بالقول: “في الشام لا أعرف كيف أبدأ وكيف أنهي، ولكن أفضل ما أُمرّن به قلبي على الكلام، هو التغني باسم دمشق: أمر باسمك إذ أخلو إلى نفسي، كما يمر دمشقي بأندلس، هنا أضاء لك الليمون ملح دمي، وهاهنا وقعت ريح عن الفرس، أمر باسمك لا جيش يحاصرني، ولا بلاد، كأني آخر الحرس، أو شاعر يتمشى في قصيدته”. كما ألقى درويش عدة مقاطع من قصائده القديمة التي يعرفها عشاقه، وكذلك قصيدة “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”، ومقاطع من القصيدة الملحمية “حالة حصار”، وبعض القصائد المهداة إلى بعض الشعراء. ونزولًا حينها عند رغبة الجمهور، ألقى قصيدة “يطير الحمام” و”الكمنجات”، ومقطعًا من “جداريته”، ليوقع بعدها كتابه “كزهر اللوز أو أبعد” الصادر عن “دار الريس” في لبنان. وحين كان يطول غياب محمود درويش عن دمشق ويُسأل عن السبب، كان يقول: “غيابي عن دمشق غيابًا جسديًا، ولم يكن عاطفيًا ولا روحيًا ولا ثقافيًا ولا سياسيًا. في دمشق أجد دائمًا مكاني القومي، وأجد فيها كما وجدت دائمًا مكانتي الأدبية والمعنوية. ومن هنا فإنني أعتبر هذا السؤال محاكمة للبعد وأتبناه”.

قاعة باسمه


وبعيدًا عن الأمسيات الحاشدة التي اعتاد على إقامتها درويش في سورية، وفي افتتاح الأسبوع الثقافي الأول لدارة الفنون في دمشق القديمة، الذي أُقيم عام 2006، حلّ ضيفًا ومكرمًا، وقرأ حينها قصائد قصيرة على دفعتين، لا تتجاوزان خمس عشرة دقيقة. وبعدما عاد إلى صفوف محبيه، طالبوه بإلحاح ليعود إلى المنبر، فقرأ: “تنسى كأنك لم تكن”، “السروة انكسرت”، “هو هادئ وأنا كذلك”، “سقط الحصان عن القصيدة”، “في القدس داخل السور القديمة”، “محاولة لوصف الغيوم والظل”. ليقوم بعد ذلك بافتتاح قاعة في الدارة سُمّيت باسمه. وكان المغني بشار زرقان قبل ذلك قد غنّى لدرويش “شجر اللوز” و”سقط الحصان عن القصيدة”، ومن ثم القصيدة الأولى التي لحنها لدرويش “طيري يا بنت ريشي”. وفي اليوم نفسه، حلّ درويش ضيفًا على دار الأوبرا مشاركًا في تأبين الراحل محمد الماغوط.

في الشام أَعرفُ مَنْ أنا


كتب محمود درويش أروع القصائد في دمشق، التي كان يقول: “في الشام، أَعرفُ مَنْ أنا وسط الزحام”. وتغنى كثيرًا باسمها في أشعاره، فكتب: “بطاقة إلى دمشق”، و”طوق الحمامة الدمشقي”، و”في الشام شام” وغيرها. وعندما قرر أن يتزوج، اختار الكاتبة والشاعرة السورية “رنا قباني” ابنة شقيق الشاعر نزار قباني.

أروع ما قاله في دمشق

في دِمَشْقَ: تسيرُ السماءُ على الطُرُقات القديمةِ حافيةً، حافيةً، فما حاجةُ الشُعَراء إلى الوَحْيِ والوَزْنِ والقافِيَةْ؟
في دِمَشْقَ، يُقَطِّعُ يوسُفُ، بالنايَ، أَضْلُعَهُ لا لشيءٍ، سوى أَنَّهُ لم يَجِدْ قلبَهُ مَعَهُ.
في دِمَشْقَ، يَعُودُ الكلامُ إلى أَصلِهِ، الماءِ: لا الشِعْرُ شِعْرٌ ولا النَثْرُ نَثْرٌ، وأَنتِ تقولين: لن أَدَعَكْ، فخُذْني إليك وخُذْني مَعَكْ!
في دِمَشْقَ: أَعدُّ ضُلُوعي وأُرْجِعُ قلبي إلى خَبَبِهْ، لعلِّ التي أَدْخَلَتْني إلى ظِلِّها قَتَلَتْني، ولم أَنْتَبِهْ…
في دِمَشْقَ، تَشِفُّ القصائدُ، لا هِيَ حِسِّيَّةٌ ولا هِيَ ذهْنيَّةٌ، إنَّها ما يقولُ الصدى للصدى…
في دِمَشْقَ، يغني المسافر في سرِّه: لا أَعودُ من الشام حيًّا ولا ميتًا، بل سحابًا يخفِّفُ عبءَ الفراشة عن روحِيَ الشاردةْ.

درويش أمام مرآته الدمشقية


ارتبط محمود درويش بعلاقات صداقة مع شعراء وأدباء سوريين، منهم نزار قباني، وممدوح عدوان، ومحمد الماغوط، وسليم بركات، وناشر كتبه الصحفي رياض الريس. ويقال إن المرآة الموجودة في بيته، والتي كان ينظر من خلالها إلى نفسه، كانت مرآة دمشقية مطعمة بالصدف، وكانت تنتقل معه في تغريباته المستمرة من بيت إلى آخر، ومن بلد إلى آخر.
حين رحل أصدقاؤه السوريون، رثاهم. فها هو يرثي نزار قباني الذي رحل عام 1998، قائلًا: «في عذوبته قسوة الحرير على زبيب الصدر الغضّ، وفي قسوته عذوبة انتحار الأنهار في البحر. عاشق الثُّنائيات الحادة والألوان الساطعة، بَرِم بالرماديّ وشروط الهدنة، وبجنوح الشعر إلى الخروج من الحسيّ إلى المجرد». وعندما زار بيت نزار بعد وفاته كتب قصيدة “في بيت نزار قباني”، التي نختار بعضًا مما جاء بها:
بيتٌ من الشعر – بيتُ الدمشقيِّ، من جرسِ الباب حتى غطاء السرير
كأنَّ القصيدةَ سُكنى وهندسةٌ للغمام، أرض العبارة زرقاء، شفافة، ليلُه أزرقٌ مثل عينيه ، آنيةُ الزهر زرقاء، والستائر زرقاء، سجَّاد غرفته أزرق. دمعُهُ حين يبكي رحيل ابنه في الممرات أزرق، آثار زوجته في الخزانة زرقاء، لم تَعُدِ الأرض في حاجة لسماء، فإن قليلاً من البحر في الشعر يكفي لينتشر الأزرقُ الأبديُّ على الأبجدية.

رثاء عدوان والماغوط

في عام 2004، زار درويش دمشق أيضًا بمناسبة أربعين الشاعر السوري ممدوح عدوان، وبدعوة من وزارتي الإعلام والثقافة في سورية وعائلة الفقيد، حضر درويش التأبين وتحدث فيه مخاطبًا روح عدوان الذي كانت تربطه به صداقة عميقة: “في عام واحد وُلدنا، مع فارق طفيف في الساعات وفي الجهات. وُلدنا لنتدرّب على اللعب البريء بالكلمات، لا أتذكر شيئًا منك. فالذكرى تلي الحرب والموت والزلزال. وأنت، ما زلت معي تكتب هذه المرثية، على هذه الورقة البيضاء، في هذا الليل البارد… أو نكتبها معًا لشاعر محبط، فلعلها لا تعجبه فيتوقف عن اغتيال نفسه، إلى أن يقوم غيرنا بكتابة مرثية أفضل، لا تعجبه هي أيضًا، فينتظر غيرها ويحيا أكثر.
كم حيَّرني فيك انشقاق طاقاتك الإبداعية عن مسار التخصص، كعازفٍ يحتار في أية آلة موسيقية يتلألأ. لم أقل لك إن واحدًا منك يكفي لتكون عشيرة نحل تمنح العسل السوري مذاق المتعة الحارق. بحثت عن الفريد في الكثير، من دون أن تعلم أن الفريد هو أنت. يا صديقي المفرط في التشظي ككوكبٍ يتكوَّن.
فصصت الثوم للقصيدة لتحمي شرايينها من التصلب. فالشعر، كالجسد، في حاجة هو أيضًا إلى عناية طبية، وإلى فصادٍ كلما أُصيب الدم بالتلوث”.
وفي عام 2006، وفي حفل تأبين الشاعر محمد الماغوط، قال: “سر الماغوط هو سر الموهبة الفطرية. لقد عثر على كنوز الشعر في طين الحياة. جعل من تجربته في السجن تجربة وجودية. وصاغ من قسوة البؤس والحرمان جماليات شعرية، وآلية دفاع شعري عن الحياة في وجه ما يجعلها عبئًا على الأحياء… عندما كانت الريادة الشعرية العربية تخوض معركتها حول الوزن، وتقطعه إلى وحدات إيقاعية تقليدية المرجعية، وتستنجد بالأساطير وتحار بين التصوير والتعبير، كان محمد الماغوط يعثر على الشعر في مكان آخر. كان يتشظى ويجمع الشظايا بأصابع محترقة، ويسوق الأضداد إلى لقاءات متوترة. كان يدرك العالم بحواسه، ويصغي إلى حواسه وهي تملي على لغته عفويتها المحنكة فتقول المدهش والمفاجئ. كانت حسيته المرهفة هي دليله إلى معرفة الشعر، انقضَّ على المشهد الشعري بحياء عذراء وقوة طاغية، بلا نظرية وبلا وزن وقافية. جاء بنص ساخن ومختلف لا يسميه نثرًا ولا شعرًا، فشهق الجميع: هذا شعر. لأن قوة الشعرية فيه، وغرائبية الصور المشعة فيه، وعناق الخاص والعام فيه، وفرادة الهامشي فيه، وخلوه من تقاليد النظم المتأصلة فينا، قد أرغمنا على إعادة النظر في مفهوم الشعر الذي لا يستقر على حال، وهو الآن في غيابه، أقل موتًا منا، وأكثر منا حياة!”.

بتاريخ 9 /8/ 2008، ومن المكتبة الوطنية حيث كان معرض الكتاب الدولي يحتضن كتب محمود درويش وزواره يقبلون عليها، قطع وزير الثقافة السوري آنذاك رياض نعسان آغا ندوة ثقافية كان موجودًا فيها على هامش المعرض لينعي رحيل محمود درويش.