مواضيع ذات صلة

محمود درويش شاعر تسكنه المدن

MA5TV الثقافية

برز موضوع المدينة في الشّعر العربيّ المعاصر في القرن العشرين بالتّزامن مع التّطوّرات العلميّة، التّكنولوجيّة، الصّناعيّة، الاجتماعيّة، والسّياسيّة، الّتي شهدتها المدن العربيّة، وقد اتّخذ الشّعراء العرب المعاصرون، عمومًا، موقفًا سلبيًّا من عالم المدينة، بوجهها الاجتماعيّ، الاقتصاديّ، السّياسيّ والوجدانيّ.
هذا وبرز موضوع ودلالة المدينة في أشعار الشّاعر الفلسطينيّ محمود درويش بشكل لافت، باعتباره أحد أبرز أعلام الشّعر العربيّ الحديث، ولعلّ تنقّل الشّاعر بين المدن والبلدان المختلفة، المحليّة والإقليميّة، العربيّة والغربيّة، على حدّ سواء، جعله يتّخذ موقفًا واضحًا وصريحًا من عالم المدينة، وبالتّالي يعبّر عنه من خلال أشعاره.
وتعتبر التّجربة الشّعريّة الفلسطينيّة حالة متفرّدة لها سمات وخصائص تميّزها من حيث الظّرف التّاريخيّ الّذي تمرّ به. وقد سبق وذكرتُ أنّ الشّعراء العرب المعاصرين تعاملوا مع المدينة، غالبًا، تعاملًا سلبيًّا، إذ اتّخذوا منها موقفًا معاديًا ورافضًا؛ أمّا في حالة الشّعر الفلسطينيّ بشكل عامّ، وشعر محمود درويش بشكل خاصّ، نلاحظ أنّ العلاقة الّتي تربط الشّاعر بعالم المدينة هي علاقة روحانيّة قويّة، إذ يصوّر الشّاعر المدينة بصورة المحبوبة أو المعشوقة أو الأمّ، ممّا يمنحها طابعًا مقدّسًا؛ ولأنّ الشّاعر فقد المدينة، نجده يحنّ إليها ويبكي على أطلالها المندثرة، باعتبارها الفردوس المفقود. وبالرّغم من أنّ المدينة ارتبطت عنده بمشاعر الحزن، والأسى، والفقدان، إلا أنّه لم يعبّر عن يأسه أو استسلامه، بل يربط خلاص المدينة بفعل المقاومة، والثّورة، والتّضحية، والفداء.

في الشام


في الشام، أَعرفُ مَنْ أنا وسط الزحام.
يَدُلّني قَمَرٌ تَلأْلأَ في يد اُمرأةٍ… عليَّ.
يدلّني حَجَرٌ تَوَضَّأ في دموع الياسمينة
ثم نام. يدلُّني بَرَدَى الفقيرُ كغيمةٍ
مكسورةٍ. ويَدُلّني شِعْرٌ فُروسيّ عليَّ:
هناك عند نهاية النفق الطويل مُحَاصَرٌ
مثلي سَيُوقِدُ شمعةً، من جرحه، لتراهُ
ينفضُ عن عباءَتِهِ الظلامَ. تدلّني رَيْحانةٌ
أرختْ جدائلها على الموتى ودفّأت الرخام.
“هنا يكون الموتُ حبّاً نائماً” ويدُلُّني
الشعراءُ، عُذْريِّين كانوا أم إباحيِّينَ،
صوفيِّين كانوا أم زَنَادِقَةً،
عليَّ: إذا
آخْتَلَفْتَ عرفتَ نفسكَ، فاختلفْ تجدِ
الكلامَ على زهور اللوز شفّافاً، ويُقْرئْكَ
السماويُّ السلامَ. أَنا أَنا في الشام،
لا شَبهي ولا شَبحي. أَنا وغدي يداً
بيدٍ تُرَفْرِفُ في جناحَيْ طائرٍ. في الشام
أمشي نائماً، وأنام في حِضْن الغزالةِ
ماشياً. لا فرق بين نهارها والليل
إلاّ بعضُ أشغال الحمام. هناك أرضُ
الحُلْمِ عاليةٌ، ولكنَّ السماءَ تسيرُ عاريةً
وتَسكُنُ بين أَهل الشام …