في MA5TV الثقافية، نحتفي بمحمود درويش فنجد أنفسنا نحتفي بالحب والحياة بالشعر بالإنسانية باللغة انزياحا ومجازا واستعارة وضمائرا وتوظيفا، نحتفي بالأدب الكوني العربي منه وغيره، نحتفي بذواتنا نحتفي بالصورة والبلاغة والتركيب والصواتة وقوة الكلمة الذي تترافع عنا جميعا، وتمثلنا جميعا، وتقولنا وتقول من أجلنا جميعا كما نقول بها ونقول معها كل الخطابات، ونقول مع درويش “في هذه الحياة ما يستحق العيش”، حيث يتحول الشاعر إلى أمل أيقونة حلم ونبوة.
وعليه عنونت هذه الإطلالة باختتامية محتملة، لملف محمود درويش، لأن الملف الآن والهنا، فتح لأنه أصلا لم ولن يغلق فمحمود درويش ليس ببلاغة القول، وحينما نقول حي فينا فهو فعلا حيوات مستمرة ..
وعليه ننشر هنا الجزء الثاني من مقال الصحفية السورية فاتن دعبول، التي تقيم بليفربول..

محمود درويش… القصيدة التي حلمت بوطن ـ2ـ
ليفربول: فاتن دعبول
من الإنجازات اللافتة أيضًا لمحمود درويش، بناء فضاء ثقافي فلسطيني جديد. فقد ساهم في تأسيس مجلة “الكرمل”، واحتضن عبرها أصواتًا شابة، ومنح المنفى الفلسطيني منبرًا ثقافيًا راقيًا. لم يكن نجمًا منغلقًا على ذاته، بل كان حاضرًا في المهرجانات، في الأمسيات، في الحوارات. جعل من القصيدة وسيلة للقاء، لا للتعالي..
وكان يتمتع بكاريزما نادرة: حضورٌ هادئ، لكنه طاغٍ. ألقى قصائده في باريس، مدريد، بيروت، القاهرة، رام الله، وكأنه يحمل فلسطين معه، لا كجواز سفر، بل كقصيدة تمشي. كانت الأمسيات الشعرية تتحوّل إلى طقوس جماعية للبوح، يجلس فيها الناس من كل الأجيال، لا ليستمعوا فقط، بل ليحتفلوا بالحرف وهو يلامس أعصابهم..
ورغم كل ما واجهه من ألم شخصي — عمليات القلب، المنفى، العلاقات العاطفية المعقدة — ظلّ شاعرًا يصنع من الوجع مادة حياة. لم يستدرجنا إلى الحزن، بل قال لنا ببساطة شاعر: الحياة رغم كل شيء، لا تزال جديرة بأن نكتبها، ونحبها، ونحياها كما لو أنها قصيدة طويلة، تستحق أن تُكمَل.)
قصائده وثيقة مقاومة سردية
في زمنٍ كانت فيه فلسطين تُختزل في الأرقام والتقارير السياسية والخرائط المبتورة، جاء محمود درويش ليعيد بناء الذاكرة الفلسطينية بأداة مختلفة تمامًا: القصيدة. لقد أدرك مبكرًا أن الاحتلال لا يسرق الأرض فقط، بل يحاول أيضًا سرقة الرواية، وأن معركة الفلسطيني ليست فقط على الجغرافيا، بل على السرد. فصار الشعر عنده وثيقة مقاومة سردية، لا تقل أهمية عن الحجر أو البندقية..
لم يكتب فلسطين بوصفها قضية خارجية، بل كحياة داخلية. منحها أسماء ووجوهًا، روائح وتواريخ، صوت أم تُنادي، وطعم خبزٍ صباحي، وباب بيتٍ مكسور. كتبها من الداخل، كما تُكتب المذكرات السرية، لا كما تُكتب الشعارات. وهكذا، تحوّلت قصائده إلى أرشيف جمعي، تحفظ ما لم تحفظه المؤتمرات، وتخلّد ما حاولت السياسات محوه.
أسّس في الشعر الفلسطيني ما يُشبه البنية التحتية الوجدانية: أعاد تعريف النكبة، وربط الشتات بالحلم، ووحّد الفلسطينيين من الداخل والخارج على أرضية رمزية موحّدة. حتى أولئك الذين وُلدوا في مخيمات لبنان أو في ضواحي تشيلي، وجدوا في قصيدته صوتًا يُشبههم. لم يكتب باسم أحد، لكنه كتب بما يشبه الجميع..
كما ساهم في إطلاق وتعزيز حضور فلسطين في المشهد الثقافي العالمي. لم يكن في موقع الدفاع أبدًا، بل في موقع الندّ، يخاطب الآخر بثقة، لا بتوسّل. وعبر ترجمات أعماله إلى لغات عدة، نقل الذاكرة الفلسطينية من كونها مادة سياسية إلى كونها سؤالًا إنسانيًا، ما مكّنها من اختراق الوجدان العالمي..
لم يقف عند حدود الشعر، بل أسّس مشروعًا ثقافيًا متكاملًا. أنشأ مجلة “الكرمل”، التي لم تكن منبرًا شعريًا فحسب، بل مختبرًا فكريًا لتأمل القضية بمعناها الوجودي والفلسفي. كان يُتابع بدقة ما يُكتب، يحرّر، يُراجع، يناقش. كان شاعرًا ومحررًا ومثقفًا، يتعامل مع الثقافة لا كهواية، بل كجبهة أخرى من جبهات المقاومة..
وهكذا، لم يكن درويش مجرد شاعرٍ يحمل وطنه في الكلمات، بل كان مهندسًا خفيًا لبناء وعيٍ فلسطيني معاصر، مقاوم للنسيان، ومعترف بالتعقيد، وجامعٍ بين الإبداع والذاكرة. جعل من كل قصيدةٍ أداة ضد المحو، ومن كل بيتٍ شعريّ، منزلًا رمزيًا لكل من لا منزل له..