أسماء بن سعيد
في الزاوية الأليمة من الذاكرة العربية، يقف محمود درويش كشجرة زيتون لا تنحني، جذورها مغروسة في الأرض، وفروعها تمتد نحو السماء، تكتب القصيدة كما تُكتب الصلاة، وترتل وجع الوطن كأنها تراتيل نجاة.
ما إن نقرأه حتى نصبح شركاء في الحنين، في الحصار، في المنفى، في الحب العصيّ، كأنّ كلماته لا تُقرأ بل تُسكب فينا، دفعة واحدة. درويش ليس شاعرًا نمرّ عليه عابرين، بل تجربة نتورّط فيها، نعيشها كما عاشها، نكاد نرى في نصوصه شقوق القلب الفلسطيني وهو يحاول أن يتذكّر دون أن يتكسّر.
هو الذي قال: “نحن نحبّ الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا”، لم يكن شاعر يأس، بل شاعر احتمالات، شاعر يقاوم الهزيمة بالجَمال. كتب الحبّ كمن يخبّئ وطناً في صدر حبيبة، وكتب الوطن كمن يرى فيه وجه أمه، لون ياسمين الناصرة، وحرقة المنافي البعيدة.
صوته الشعري لم يكن صوتاً واحداً، بل أرشيفاً من الأصوات: صوت اللاجئ، الأسير، العاشق، الثائر، وكل من وجد نفسه مرمياً في عالم لا يحتمل الحالمين. تتنقل قصائده بين الضوء والظل، بين الرغبة في الطيران والحنين للتراب، لكنها لا تنقطع أبدًا عن النبض الأول: فلسطين.
في كل بيت من شعره تنام ذاكرة أمة. كل استعارة من استعاراته تحوّلت إلى مرآة نرى فيها هشاشتنا ونقاؤنا، خيباتنا وصبرنا الطويل. كيف لا يُصبح درويش فينا وهو القائل: “أنا من هناك. ولي ذكريات.”؟ هو من هناك، لكنه صار هنا، في كل “أنا” تنبض بالكرامة.
محمود درويش لا يُقرأ من أجل الإعجاب، بل من أجل البقاء. هو خشبة خلاص في زمن الغرق، وبوصلة روحية حين تتيه المعاني. بعد رحيله، لم تغب قصائده، بل ازدادت حضوراً، كأن الغياب صار شكلاً آخر من أشكال الإقامة.
في حضرته، لا نملك إلا أن نصمت وننصت، نترك للكلمات أن تدلّنا علينا، أن تقول ما لم نستطع أن نقوله نحن. سيظل درويش في وجداننا، ليس فقط لأنه كتب عنّا، بل لأنه كتبنا، بيتاً بيتاً، وسطرًا سطرًا، وترك فينا ما يجعل النسيان خيانة لا تُغتفر.