ليفربول: فاتن دعبول
في تاريخ الشعوب المنكوبة، قلّما ينبثق صوتٌ قادر على أن يكون أكثر من مجرد شاعر؛ صوتٌ يُعيد ترتيب المعنى في لحظة الفوضى، يُنقّب عن الإنسان وسط الركام، ويمنح المنفى اسمه الجديد على هيئة قصيدة. في الذاكرة العربية الحديثة، لم يكن أحد أكثر تمثيلًا لهذا الصوت من محمود درويش، الشاعر الفلسطيني الذي تحوّلت قصيدته من صدىً للهوية إلى بوصلة للوعي، ومن وثيقة حبّ للوطن إلى تأملٍ وجودي في معنى الانتماء، الفقد، والزمن..
ليس درويش ظاهرة أدبية وحسب، بل هو تحوّل عميق في وظيفة الشعر العربي. من مرحلة النشيد الجمعي إلى صوفية اللغة، من القصيدة المقاومة المباشرة إلى المجاز الفلسفي العالي، مضى هذا الشاعر ليجعل من الكلمة مأوىً للذين فقدوا المأوى، ومن البيت الشعري خيمةً للمنكوبين بالجغرافيا والتاريخ معًا. لقد كتب من قلب القضية، لكنه لم يسجن نفسه داخلها، فكان في آنٍ واحد: الصوت والشك، الأمل والخذلان، الأرض والسحابة..
وُلد درويش في البروة، قرية لم يبقَ منها سوى حكاية، فحمل في داخله منذ الطفولة معنى الضياع. عاش اللجوء داخل الوطن، والنفي خارج حدوده. خَبِر سجون الاحتلال، ثم حمل المنفى في قلبه من بيروت إلى تونس إلى باريس، حتى بدا كأنه يمشي على خريطة بلا إحداثيات. لكنه، رغم كل ذلك، لم يكن شاعر الحنين وحده؛ بل كان شاعر الشك، شاعر الإنسان حين يتهجّى العالم، لا بوصفه مكانًا بل بوصفه سؤالًا..
في تجربته، تتقاطع السياسة بالشعر، لكن دون أن يخضع أحدهما للآخر. هو من كتب إعلان الاستقلال الفلسطيني، لكنه انسحب من أوسلو باحتجاج الشاعر لا السياسي. وهو من حوّل حبّ ريتا إلى استعارة للتمزق، ومن جعل من الموت شخصًا يحاوره لا عدوًا يخشاه. كل مرحلة من مسيرته كانت انقلابًا على ما سبقها، كأن الشعر عنده ليس ميراثًا بل اشتقاق دائم لحياة لا تهدأ..
لقد كتب درويش كثيرًا عن فلسطين، لكنه لم يكتبها كشعار. كتبها كأم، كنافذة، كعشق، كحقيبة، كغصة، كقهوةٍ في الصباح. لم يكن يبحث عن تحرير الأرض فقط، بل عن تحرير الذاكرة من التشوه، واللغة من العجز، والقصيدة من التحنيط.
واليوم، بعد سبعة عشر عامًا على رحيله، لا نزال نقرأه بنفس الدهشة الأولى. لأنه لم يكتب عن فلسطين فقط، بل كتب عن كلّ من عرف معنى أن يُقتلع، أن يُحبّ من بعيد، أن يبحث عن اسمه في المرايا، ويخاف من أن ينساه المكان. لا نقرأه فقط لنعرف من هو، بل لنفهم من نحن..:
المنفى داخل الوطن
قبل أن يذوق طعم المنافي الكبرى، عاش محمود درويش منفىً صغيرًا، وأكثر قسوة: منفى داخل وطنه. تلك المفارقة القاسية التي تختصر مأساة فلسطين. فقد وُلد عام 1941 في قرية البروة، التي لم يبقَ منها شيء سوى أطلال تحرسها الذاكرة، ليجد نفسه بعد النكبة مباشرة لاجئًا على أرضٍ يُفترض أنها وطنه. في هذا التهجير الداخلي المبكر، تشكّلت أول بذور التمرد، ليس على الاحتلال فقط، بل على المفاهيم نفسها: الوطن، الهوية، اللغة..
لم تكن طفولة درويش محاطة بالبراءة النمطية، بل كانت مزيجًا معقدًا من الخوف واللغة. حين عاد مع عائلته من جنوب لبنان سرًّا إلى الأراضي المحتلة، كان عليه أن يدرس في مدارس الدولة التي محَت قريته عن الخارطة، وفرضت عليه أن يُنشد نشيدها، ويرفع علمها، ويكتب مقالاتٍ في مدحها. ولعلّ هذه اللحظة التربوية المسمومة هي التي جعلت من درويش شاعرًا مبكرًا، لأن الطفل الذي يُجبر على مدح سجّانه، لا يملك إلا القصيدة كجهاز تنفّس بديل..
هنا تكمن جدلية درويش الأولى: شاعرٌ تعلّم العبرية قسرًا، فأجادها، وكتب بها أحيانًا، لكنه استخدمها لاحقًا لفهم العدو لا للتصالح معه. لم يُقاوم الاحتلال فقط بالبندقية، بل تسلّح بالثقافة، فصار قارئًا شرسًا في سنّ المراهقة، يجمع بين بودلير ونيرودا، وبين المتنبي وماركس، وكأنّه يضع الوعي الثقافي كخطّ دفاعٍ أولي أمام عنف الاحتلال..
في تلك المرحلة، لم يكن الشعر عنده جماليات لغوية، بل ضرورة بقاء. كتب لأنه لا يستطيع أن يسكت، وليس لأنه يريد أن يقول. كتب كمن يكتب على الحائط في زنزانة، لا ليُعجب أحدًا، بل ليمنع نفسه من الانهيار. هذه الكتابة الحدّية، التي لا تُريد أن تُرضي، ولا تخشى أن تُدين، هي ما منحته هويته الشعرية الفريدة، وجعلت منه صوتًا خارج كل السياقات النمطية.
ولعلّ أحد أكثر الجوانب التي نُدرت الإشارة إليها في هذه المرحلة، هي أن درويش لم يكن محبوبًا من كل الأوساط الفلسطينية في بداياته. وُصفت لغته بأنها “نخبوية”، وقال بعض المناضلين إنه يتعامل مع الشعر كترف بينما الأرض تُسحب من تحت الأقدام. وقد ردّ على هذه الانتقادات لاحقًا في إحدى مقابلاته قائلاً::
“أنا لا أملك بندقية، ولكنني أكتب ليخجل حامل البندقية من أن يقتل بلا سبب”.
بهذا الوعي، رسّخ درويش لنموذج جديد: الشاعر الذي لا يُنازع المقاتل دوره، بل يُضيف عليه بُعدًا أخلاقيًا، ويُذكّره أن الوطن ليس فقط خريطة تُحرّر، بل ذاكرة تُصان، وشعورٌ لا يُمتهن..
بناء الوعي الجمالي
من بين كل ما تركه محمود درويش من ميراث شعري، تبرز قدرة نادرة على صناعة المعنى من العدم، وعلى تحويل الوجع إلى جمال، والفقد إلى نشيد. لم يكن شاعر مقاومة فقط، بل كان معمارًا للوعي الجمالي في الوجدان العربي، بنى فينا ذائقة جديدة ترى الشعر ليس كأداة للتنفيس، بل كوسيلة لفهم الحياة، والارتقاء بها..
كان أول من تجرأ على أن يقول في خضمّ المجازر: “نحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا”. لم تكن تلك العبارة هروبًا من الواقع، بل مقاومة ناعمة له، تحدٍّ صامت في وجه الاغتيال اليومي للفرح. كان يكتب عن الأمل لا بوصفه خرافة، بل بوصفه تمرينًا يوميًا على النجاة. وفي زمن التصنيفات القاسية بين المناضلين والناعمين، شقّ درويش طريقًا ثالثًا: طريق الإنسان الذي يقاتل كي يحتفظ بإنسانيته..
عبر ديوانٍ بعد ديوان، قادنا درويش نحو علاقة جديدة مع اللغة. علّمنا أن المجاز ليس ترفًا بل ضرورة، وأن القصيدة ليست بيانًا سياسيًا، بل نافذة على الذات. وبهذا المعنى، فإن أبرز إنجازاته الإيجابية لم تكن فقط فيما كتبه، بل فيما غيّره فينا. لقد شكّل وعي أجيال كاملة، وحرّر الشعر من القيود القديمة، وأعاد له سلطة التأثير، دون أن يسقط في التبشير أو الخطابة..
إشارة: ننشر هنا الجزء الجزء الأول من مقال الصحفية السورية فاتن دعبول، التي تعيش في ليفربول، والجزء الثاني سينشر في اختتام الملف اليوم في الساعة العاشرة والنصف ليلا..