مواضيع ذات صلة

حوار افتراضي: محمود درويش؛ ذاكرة وطن يُروى شعرا

بقلم: آية الحمري

“أنا من هناك… ولي ذكريات،
ولدي أم… وأخوات،
وسجن بناه الغرباء،
ولي موجة خطفتها النوارس،
ولي مشهدي الخاص… ولي عشبة زائدة،
ولي قمر في أقاصي الكلام،
وها أنذا أستعد لغيبتي…”
بهذه الكلمات من ديوانه “لماذا تركت الحصان وحيدًا” (1995)، يعرف محمود درويش نفسه لا بوصفه مجرد شاعر، بل كصوت يتكلم من الظل، من هامش الوطن، من عمق النكبة، من سؤال لم يجد له بيتا. في كل قصيدة كتبها، كان درويش يخوض صراعا مزدوجا: مع اللغة كهوية ضائعة، ومع الوطن كظل لا يمسك.
ولد محمود درويش عام 1941 في قرية “البروة” الواقعة شرق عكا، لأسرة فلاحين. وبعد اجتياح الجيش الإسرائيلي للقرية في نكبة 1948، لجأ مع أسرته إلى لبنان، ليعود بعد عام إلى فلسطين متسللًا، ويعيش كمواطن “غير قانوني” داخل وطنه، يحمل بطاقة “غائب حاضر” تصدرها سلطات الاحتلال لمن لا يُعترف بهم قانونيًا رغم وجودهم الفعلي. هكذا بدأ المنفى الأول، منفى داخل الجغرافيا، حيث الوطن يتحول إلى طيف إداري، والهوية تصادر على أبواب المدرسة والحلم.
في سنواته الأولى، برز درويش كشاعر شاب يكتب في صحيفة “الاتحاد” التابعة للحزب الشيوعي الإسرائيلي، ويلقي قصائده في المهرجانات الشعبية باللغة العربية التي لم تكن تدرّس في المدارس العبرية. كتب قصيدته الشهيرة “بطاقة هوية” عام 1964، والتي يبدأها بالقول:
” سجل
أنا عربي
ورقمُ بطاقتي خمسون ألف
وأطفالي ثمانية
وتاسعهم… سيأتي بعد صيف
فهل تغضب؟”
كانت هذه القصيدة بمثابة قنبلة شعرية فجرت وعي جيل كامل، ونقلته من القصيدة التقليدية إلى القصيدة الموقف، حيث تتداخل السياسة بالوجود، والغضب بالحب. سجن مرات عديدة بين 1961 و1970، ومنع من مغادرة قريته أحيانا، بل ومنع من إلقاء شعره أحيانا أخرى.
غادر درويش فلسطين عام 1971، ليبدأ رحلة منفى ثانية أكثر حدة ووضوحا، امتدت من القاهرة إلى بيروت، ومنها إلى تونس، ثم باريس، فعمان، وأخيرا رام الله. كانت تلك الفترة محملة بتغيرات جذرية في خطابه الشعري. تحول من “القصيدة المباشرة” التي تحاكي الجمهور بخطابية واضحة، إلى قصيدة أكثر تعقيدا، تنهل من التراث الإنساني وتبحث عن أسئلتها الخاصة.
في بيروت، عمل محررا في مجلة شؤون فلسطينية ومجلة الكرمل، كما انخرط في منظمة التحرير الفلسطينية، وكان صوتا أدبيا يعول عليه في معركة الوعي.
لكن الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، ثم الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982، تركا أثرا بالغا عليه. بدأ يسائل جدوى الشعر في زمن الخراب، وكتب:
“في الحرب… القصيدة ليست كافية،
لكنها لا تموت”.
هذا التحول تجلّى بوضوح في ديوانه “مديح الظل العالي” (1983) و“أحد عشر كوكبًا” (1992)، حيث لا يعود الفلسطيني مجرد رمز وطني، بل يتحول إلى إنسانٍ يُقارن تاريخه بملحمة الأندلس، أو يسائل سقوط طروادة، أو حتى يتهكم من ذاته التاريخية.
في ديوانه “جدارية” (2000)، الذي كتبه بعد إصابته بنوبة قلبية كادت تودي بحياته، يقدم درويش مونولوجًا طويلًا مع الموت. هناك لا يطلب العودة إلى الأرض أو رفع العلم، بل يسأل عن معاني الحياة، عن الصوت، واللغة، والاسم. يقول:
” هذا هو اسمُكَ
قالتِ امرأةٌ،
وغابتْ في الممرِّ اللولبيِّ”
بهذه السطور، تصبح الهوية نفسها سؤالا شعريا. الاسم ليس مجرد توقيع، بل لعنة، حكاية منقوصة. الهوية ليست ثابتة، بل تتشكّل مع كل منفى جديد. ومن هنا، كانت قصائد درويش مقاومةً ضد التبسيط. لم يقبل أن يكون “شاعر القضية” فقط. بل ظل يؤمن أن القضية لا تُختصر في راية، بل في الفرد، في الحب، في تفاحة على الطاولة.
رغم أن المنفى والهوية كانا مركز مشروعه، لم يغفل درويش عن الجسد، عن الحب، عن الحضور الإنساني البسيط. كتب لحبيبات مجهولات، وصوّر اللقاء والفراق كمسائل وجودية. في ديوانه “كزهر اللوز أو أبعد” (2005)، نقرأ:
” نحبُّ الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا
ونسرق من دودة القزّ خيطًا
لنبني سماءً لنا…
ونُحاولُ”
هنا لا نجد الشاعر الثوري فقط، بل العاشق، والحالم، والحرفي الذي يحوك الوجود بخيط دودة القز، لا بصيحات الانفعال.
توفي محمود درويش في 9 أغسطس 2008، بعد جراحة قلب في الولايات المتحدة. كانت جنازته في رام الله مهيبة، لكنها أيضا مؤلمة، لأن الشاعر الذي كتب عن العودة لم يعد إلى “البروة”، قريته التي لم يبق منها شيء. دفن في “حديقة البروة” برام الله، حيث يقف اليوم تمثاله، محاطا بالزيتون، والقصائد.
وربما كانت وصيته الأخيرة كامنة في بيته الشعري:
” على هذه الأرض ما يستحق الحياة
تردُّدُ إبريلَ، رائحةُ الخبزِ في الفجر،
آراءُ امرأةٍ في الرجال،
كاتبٌ لا يخجلُ من دمعه،
شعبٌ يُقاومُ الاحتلالَ ببسالة،
وقصيدةٌ تُقاومُ الغياب.”


 هذا الحوار الافتراضي مع الشاعر الفلسطيني محمود درويش مستلهم من مجموعة من أبرز مقابلاته وكتاباته الشخصية خلال سنوات منفاه في باريس، خاصة حواره مع صحيفة لوموند ديبلوماتيك الفرنسية (1996) و جريدة السفير ، وأفكاره المنشورة في ديواني في حضرة الغياب وجدارية، إضافة إلى حواراته مع قناة الجزيرة وصحيفة الحياة. الأجوبة الواردة ليست متخيلة بالكامل، بل هي مجمعة ومحرّرة من كلماته هو، كما ظهرت في أكثر من مصدر وثائقي وأدبي.
س: سيدي محمود، كيف تكتب القصيدة في مدينة مثل باريس؟
– درويش: باريس مدينة تمنحك جمالها، لكنها لا تعطيك هوية. أنا هنا أتنفس بحرية، لكن لا أنتمي. أكتب من مسافة… كأنني أقف على حافة حلم بعيد. المنفى ليس المكان الذي نُطرَد إليه، بل هو الذي يجعلنا نُطارِد أنفسنا.
– س: لكنك في بداياتك كنت تُعرف بشاعر المقاومة. هل تخليت عن هذا الدور؟
– درويش: لم أتخلَّ، بل تطورت. الشعر ليس هتافا، بل سؤال. كنت أكتب “سجّل أنا عربي”، الآن أكتب “هذا هو اسمك”. القصيدة ليست صرخة سياسية فقط، بل هي فعل تأملي أيضا. القضية لا تحتاج إلى أبيات، بل إلى وعي لغوي عميق يجعلها خالدة.

– س: كثيرون يرون أن منفاك جعلك أكثر حرية، ولكن… أليس فيه خيانة للارتباط بالأرض؟
– درويش: أن تكتب عن الوطن من بعيد لا يعني أنك خائن. القرب الجغرافي لا يضمن القرب الإبداعي. لقد رأيت الوطن من نوافذ الطائرات أكثر مما سرت فيه، لكنني لم أفقده داخليا. أكتبه لأحميه من النسيان.
– س: في إحدى قصائدك، تقول: “أنا لست لي”. لمن أنت إذن؟
– درويش: أنا للقصيدة. للذاكرة. للقلق. للشعب الذي يُحمّلك أكثر مما تطيق، ثم يطلب منك أن تبتسم. أنا لا أكتب لكي أُمجّد، بل لأفهم… ولأصمد أمام هشاشتي.
– س: وما رأيك في أن البعض يرى فيك رمزا وطنيا لا يُمس؟
– درويش: الرموز لا تكتب الشعر. أنا أرتكب الأخطاء، أتردد، أشتاق، أخاف، أُحب، وأكره. ما أرفضه هو أن أتحول إلى أيقونة معلقة على الجدران. أنا شاعر، لا تمثال.
– س: هل تشعر بالوحدة في باريس؟
– درويش: كل شاعر وحيد. حتى وسط أهله. باريس جميلة… لكنها ليست حيفا. وأنا لا أملك مدينة. أكتب لأُسكن الكلمات بدل أن تسكنني الأمكنة.
– س: ما الذي تتمنى أن يُفهم من شعرك بعد رحيلك؟
– درويش: أن الشعر لا يرفع الرايات بل يطرح الأسئلة. أن فلسطين ليست جغرافيا فقط، بل هي استعارة أيضا. وأن محمود درويش لم يكن نبيا، بل رجلًا يبحث عن معنى في زحمة الرماد.
– س: وماذا تريد أن تقول لو كتبت قصيدتك الأخيرة؟
– درويش: لو كتبتها، فلن أزعم أنها وصية، ولا نبوءة.
ستكون قصيدة بسيطة… لا عن الوطن، ولا عن الحرب، بل عن العاديّ:
رائحة الخبز، كرسي خشبي، كوب قهوة، ضوء شمس متعب على حافة نافذتي.
سأكتب كما لو كنت عصفورا أخطأ الطريق…
لا يريد العودة، ولا يعرف إلى أين يطير.
– س: ما الفرق بين الوطن حين نراه، والوطن حين نحلم به؟
– درويش: حين نراه، نصطدم بواقعه؛ بالجدار، بالحواجز، بالأرض التي لم تعد لنا. أما حين نحلم به، يصبح أكثر صفاء، أكثر شبها بالأغنية. وربما لهذا أحببته أكثر من البعد، لا من القرب.
– س: لكن… أليس في المنفى جحود ما؟ أن تكتب عن الوطن من بعيد؟
– درويش: الغريب هو أن هناك من يرى الوطن من زوايا لا يراها المقيم. أنا لا أكتب من الذاكرة فقط، بل من الخوف عليها. المنفى ليس اختيارا دائما، بل شرطا فرضته السياسة، وحولته القصيدة إلى سؤال أخلاقي.
– س: هل مت شاعرا، أم إنسانا كان يكتب فقط؟
– درويش: مت وأنا أبحث عن إجابة لهذا السؤال. لم أكن نبيا للشعر، كنت إنسانا خائفا، يعاني من القلق، ويخاف من الظلال، ويحتمي باللغة. إنْ اعتبرني الناس شاعرا، فهذا لأنني قلت ما لم يجرؤوا على قوله… بصوت خافت.
– س: وكيف ترى صورتك اليوم في مرآة الجماهير؟
– درويش: أخاف من التحنيط. أخاف أن أتحول إلى تمثال، لأن القصيدة تموت حين ترفع فوق الرأس. دعوني كما أنا: شاعر يشبهكم… لكنه يكتب أكثر .
هكذا غادرنا الشاعر، دون أن يودّع الكلام، ودون أن يطوي دفتر الوطن. في حوار تخييلي، قد لا ينتهي عند حدود السؤال والجواب، بل يبدأ من حيث تتقاطع القصيدة بالحياة. رحل محمود درويش، لكن أسئلته لم ترحل. بقيت بيننا، تؤرق، تواسي، وتدلّنا على الإنسان الذي كان يسكن الشاعر.