مواضيع ذات صلة

محمود درويش: شاعر الهوية والمنفى

فاطمة الزهراء سهلاوي

في مجال الشعر، يُولد الوطن من نبع كلمات، وتتحول القصائد إلى خريطة حلم هادف، هذا ما فعله و برهن عليه محمود درويش، الشاعر الفلسطيني الذي حمل بلاده في قلبه، وكتبها في كل سطر، وكأن الحبر الذي استخدمه كان مستخرجًا من تراب فلسطين،لتدوين كلماته .
وُلد محمود درويش في قرية البروة سنة 1941، لكنه لم يعش في هدوئها طويلًا، إذ هجّر وهو طفل لا يتجاوز السادسة من عمره خلال النكبة، ليبدأ منذ ذلك الحين أول فصول المنفى، وهو المنفى الذي سيصبح فيما بعد حضورًا دائمًا في شعره، وموضوعًا مركزيًا في تجربته الإبداعية ، من خلال ما عاشه و تتأسس بها ذاكرته.
لم يكن درويش شاعر قضية فحسب، بل كان شاعر هوية تبحث عن لغة تنقذ حرقة يأسه. في قصائده، يتجلى الوطن ككائن حي، لا كخريطة سياسية. الوطن بالنسبة له ليس فقط فلسطين، بل فكرة الانتماء رغم البُعد، والوفاء رغم القطيعة، وحب الأصل المفتخر به. كتب:
“نحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا”، وهي عبارة لم تكن مجرد أمنية، بل موقف شعري يرفض الاستسلام لليأس والشتات و بقوة .
ان الهوية كانت تطرح سؤال الشاعر المفتوح ،و هو ما أكده محمود درويش .لم يقدم تعريفًا جامدًا لفلسطين، بل جعلها سؤالًا مفتوحًا في وجه القارئ والعدو والذات. كان واعيًا بأن الهوية ليست مجرد ورقة أو شهادة ميلاد، بل هي ذاكرة جماعية، ولغة، وتجربة مقاومة. يقول:
“الهوية هي ما نُورث لا ما نرث، ما نخترع لا ما نتذكر”، وهذا بالضبط ما فعله: اخترع هوية شعرية لفلسطين.
في الوقت الذي سادت فيه اللغة السياسية والخطابات المباشرة، جاء درويش ليؤسس لـ”المقاومة الناعمة” فقط كتابة لكن انا تأثير قوي يهز المكانة ، فكانت قصيدته رصاصة من حرير، لكنها لا تقل عنفًا في التأثير. استطاع أن يجمع بين العذوبة والقوة، وبين الحزن الجماعي والتعبير الفردي، اه طابع خاص على قارئه كأنه يعطيه واقع بجميع أحاسيسه و يعيشها ،معبرا بحجة.
رغم ارتباطه العميق بالقضية الفلسطينية، فإن درويش ظل وفيًّا للشعر أكثر من السياسة. خروجه من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير سنة 1993 كان رسالة مفادها أن الشعر له منبر خاص لا يخضع للتوازنات ولا للمصالح. لقد أراد أن يظل صوتًا حرًا، لا نشرة أخبار، وهذا ما بين على عدم انحيازه الى جانب سياسة و تعلقه بحرية شعر المنعم بقواعد.
في كل ذكرى لوفاته، التي تصادف 9 غشت، يتردد صوته في الأفق: “وأحنّ إلى خبز أمي…”، ليدرك العالم أن درويش لم يكن مجرد شاعر فلسطيني، بل شاعر إنساني، كتب عن وطنه ليكتب عن كل الأوطان، وتحدث عن نفيه ليعبر عن آلام البشر جميعًا. لقد صار محمود درويش في الذاكرة ليس فقط شاعر فلسطين، بل رمزًا عالميًا للهوية المفقودة، والحنين الدائم، والحب المستحيل، وهنا يبث الشاعر الاصيل مدى صدقه في التعبير و زغفه الموصول الى القلوب وشامل لجميع الأذواق