أمينة عباس- دمشق
في ظل الإصدارات الكثيرة التي تغزو الساحة الشعرية لم يعد من السهولة اليوم إقناع القارئ بما يُقدّم أو على الأقل حثّه على تتبّع ما يُكتب، ومن ينجح في ذلك كما حدث مع الشاعرة رجاء نور الدين في باكورة أعمالها المجموعة الشعرية “لا نبي يهدي” حيث رحبت بها الأوساط الثقافية هو نجاح كبير يُحسب لها، فاستطاعت أن تحجز مكاناً لها في الساحة الشعرية على الرغم من تأخرها في إصدارها لانشغالها الدائم بأسرتها التي كانت لها الأولوية في حياتها”.
لا نبي يهدي
لم تكن مجموعة “لا نبي يهدي” والتي أرادت الشاعرة رجاء نور الدين من عنوانها الإشارة إلى أنه نحن في زمن فيه من الصعوبات والألم الكثير نفتقد فيه لنبيّ يهدينا ويوجه مسارنا للصح، وما جاء فيها وإن تأخرت في إصدارها إلا أنه ليس وليد اللحظة،:” لم أتوقف عن كتابة الشعر منذ أن كنت في بداية المرحلة الإعدادية، حيث كنت أكتب ما يناسب تلك المرحلة العمرية، وكفتاة صغيرة صامتة ومطالبي قليلة كنتُ أعبّر عما أريده بالكتابة التي لم أتوقف عنها أبداً، لكنني كنتُ أخبئ ما أكتبه في أدراجي دون أي رغبة أو تفكير بالنشر، مع تأكيدي على أن المحرّض الأساس للكتابة لديّ القراءة النهمة منذ الصغر، حيث نشأتُ في بيت تملأه الكتب والروايات وبين أخوة وأخوات يسكن الكتاب في يدهم دائماً وهو الدرس الأول الذي تعلمناه من والديّ في أن يبقى الكتاب رفيقنا الأبديّ”.
العتب الموضوع الأهم
ما الذي حرّضك على النشر ؟ تجيب نور الدين قائلة: “التشجيع الدائم من أخوتي على ضرورة النشر، ولكن لا أخفي أن السبب الأهم هو حالة التحدي لذاتي وإخراج ما بداخلي للعلن لعلّ الروح تشفى من سقمها عندما نطرح أنفسنا أمام الآخرين، وكذلك الألم والحاجة للحبّ وتفريغ الذات التي ظلّت تائهة خلال السنوات العشر الأخيرة نتيجة ظرف الحرب الطاحنة التي استعمرتنا واستعمرت أرواحنا وخلقت نُدَباً داخلنا، فغيرت النفوس وقتلت العواطف وعوّمت اللارغبة في أي شيء وعملتُ على إظهار الجانب السيء في نفوسنا، لهذا سيطر الحزن على معظم القصائد وظهر الحب والتحدي والانتقام والانتظار، وكان العتب الموضوع الأهم لأنني عتبت على كل ما كان يحيط بي ولفّتْه الهزيمة وعلى الحبّ الذي تغيرت مفاهيمه”.. وحين سألتُها “ألم تترددي في البوح بما كان يعتريك؟” ردّت متسائلة: “ما الضير في أن يقول الكاتب كل ما يعتريه أو ما مرّ به من خلال قصة أو قصيدة أو رواية؟ الأدب برأيي علمٌ وتربية، نكتبه ونقرأه ليشذّب معارفنا ونستفيد من تجارب الآخرين، والنص برأيي ما هو إلا رسم ونقل لصورة دواخلنا، وما مررنا به أن الإنسان جملة مشاعر وأحاسيس، وكل منّا يعبّر عنها بطريقته، فالإنسان العادي يعبّر عنه بانفعال فطريّ يسكنه، أما من يملك موهبة الكتابة فيعبّر من خلال نص يكتبه، وأنا عبّرتُ من خلال الشعر عن مكنونات القلب من محبة الشعر وما لي من نصيب في الحياة التي تحرّض قلمي دائماً على الكتابة وأن الشعر سيد المواقف الذي يغنيك عن سؤال الآخر فيفهمك من القصيدة وتفهمه من إعجابه بها”.
الشكل والمضمون جزءان لا يفترقان
تدرك رجاء نور الدين أن كتابة الشعر تحتاج إلى الموهبة والفطرة والذكاء في استخدام الكلمة والعبارة: “القراءة العميقة والمتأنية ضرورة كبيرة، والمخزون اللفظي والمعرفي الذي تصقله القراءة وتعمّقه يجعل لديك بنك معلومات غني يساعدك في إيصال الفكرة والعبارة لقلب القارئ بسرعة مدهشة، وأنا أفضّل الشعر غير المقفى لأنه لا يجعلك تنشغل بالشكل على حساب الَمضمون، ففي كثير من الأحيان قد نستبدل مفردة نابعة من القلب وأكثر تعبيراً لأنها لا تناسب الوزن الشعري، وأنا هنا لا ألغي أهمية الشعر المقفى وجماليته، فهو الأصل، مع إيماني أن الشكل والمضمون جزءان لا يفترقان، حيث الشكل ضروري من أجل موسيقا القصيدة، فدونها لا يمكن أن يقبع ما يكتب في الذهن ونشعر بجماليته، والمضمون أكثر ضرورة كي يصل لقلب القارئ ويخلق التأثير الفاعل الذي نريده من القصيدة”.
الغنائية الشعرية
تقول الإعلامية هدباء العلي: “استطاعت رجاء نور الدين بإرادة واعية وبعد تردد أن تجمع نثرياتها الشعرية ضمن مجموعة الأولى التي تميزت قصائدها فيها بسمات الغنائية الشعرية لتعبّر عن انفعالات الشاعرة الشخصية وما يكتنف وجدانها وقد صاغتها معمّدة بالحبّ الذي تشكّل مع بدايات وعيها وقبل أن تعجنه التجربة وتؤطره بقيود، فكان الشعر بالنسبة لها بوحاً نفسياً” وتضيف العلي قائلة: “رغم أنها عنونتْ قصائدها إلا أن متنها ذهب إلى غير ذلك أحياناً مما أضفى المزيد من الدهشة فيها وأثار الكثير من التساؤلات.. أهو الإيهام أم الخروج عن المألوف؟ أما الرومنسية التي تجلّت في ديوانها فكانت تبعاً لما نادى به الرومنسيون بعودة الفن إلى الطبيعة والابتعاد عن الإبهار والزخرفة والأقنعة، فلا يعنيها سوى وحدة الشكل والمعنى والخارج والداخل والذاتي والموضوعي، فتنهل من الطبيعة البكر آلامها ولا تتوخى إلا النقاء والبساطة اتقاءً للضغوط الاجتماعية مع الانفصال عن الماضي الشعري وتقاليده والثورة على قواعده وقوالبه التقليدية”.
نصوص مختلفة
ورأى الشاعر علي العقباني أن المجموعة تضمّ نصوصاً مختلفة: “نحن إزاء نصوص مختلفة على صعيد الشكل والشعرية والحالة واللغة واحتمالات التأويل والجرأة والذاتية المفتوحة على العام، وهي نصوص معجونة بنار الحرب والحب والفقد والحزن والألم والانتظار والفجائع الكبرى، وقد حاولت الشاعرة من خلال كل ذلك كسر قوالب الشكل والتأويل والاحتمال والتوقع لتذهب بالقارئ نحو عوالمها الداخلية التي شكّلتها بعذوبة مفرطة رغم قسوتها وبلغة لا تعقّد الحالة بل تجعلنا قريبين منها، وهذا ما جعل القصائد تنتمي إلى جنسها الأدبي “قصيدة النثر” وإلى معركة الشاعرة الأدبية والفنية في أن تكتب قصيدتها الخاصة في الحضور والحياة والتعبير واللغة، منتمية بذلك إلى حداثة شعرية لافتة مشبعة بالإدهاش والجمال.
تعميم الحبّ
ولخّص الشاعر هاني نديم رأيه بالمجموعة عبر تقديمه لها، فكتب: “في هذا الوقت المضطرب برياح العوز وحرائق الحروب يصبح الحبّ ملاذاً آمناً للخوف والخائفين.. هذا ما تقوله مجموعة رجاء نور الدين التي واكبت نصوصها ولاذت بها في كثير من الأحيان على أن تنذر قرّاءها بأنه زمن موحش، وأن قلبها بلا مأوى.. يمتاز معجم نور الدين بلغته التي تحاول الغضب فتعيده إلى هدوئه واتزانه، وتتوحش اللغة، فتربت على كتفها كي لا تفزعنا، وهذه قيمة مضافة لنصوص مختزلة وصائبة، لا تثرثر خارج مرادها في تعميم الحبّ كحالة دائمة في زمن مؤقت.. إنها نصوص غير متكلفة وبعيدة عن استعراض العضلات المجازيّ والزخرفي.. نصوص ناعمة، في بواطنها خشونة الحياة في “سورية الحرب” ولهذا تنبض بإيقاع جميل وشجيّ، يثير الحنين إلى أقصى درجة”.