أمينة عباس- دمشق
شهد مقهى الروضة بدمشق مساء أمس الأثنين 11 غشت 2025 توقيع الكاتبة نورا محمد علي لروايتها “غوديا سليل النهرين”، وهي الثانية بعد تجربتها الروائية الأولى “يحدها نهر” التي أصدرتها عام 2021 وما بين التجربة الأولى والثانية ظلت تنهل الكاتبة من بيئة الفرات قصصها وأحداثها.

*ما الفرق بين التجربة الأولى لكِ بالرواية وتجربتك الثانية؟
**الفرق بسيط لكنه أكثر احترافية، وهو أن تستطيع التحكم بمشاعرك وعواطفك وحتى مواقفك الخاصة، وأن تترك للشخوص كامل حريتها على الورق، كوني لا زلت أكتب على الأوراق وأشعر بالغربة أثناء كتابة المشاعر على ملف في جهاز كمبيوتر.
*أصعب ما يواجه الكاتب في تجربته الثانية؟
**أصعب ما يواجه التجربة الثانية هو التطور والمزيد من المعرفة والمسؤولية أمام الرواية الأولى، وسؤال: هل محوتها من ذاكرتك؟ هل غادرتك شخوصها وطويت سيرتهم ضمن غلاف عمل مطبوع لتنتقل بنقاء ذهن للتلصص على شخوص جدد؟
*وهل من قاسم مشترك بين الروايتين؟
**القاسم المشترك بينهما بيئة الفرات التي تحتاج لروايات وقصص ومزيد من الفنون لتستوفي حقها في الحضور الثقافي والمجتمعي الذي يسلط الضوء على هذه البقعة الساحرة، والاختلاف في روايتي الثانية هو الزمان؛ إذ في روايتي “يحدها نهر” كانت البطلة تسرد تاريخ الفرات خصوصًا وسورية عمومًا منذ الاحتلال العثماني حتى شرارة الثورة السورية، بينما في رواية “غوديا سليل النهرين” يعود غوديا بالقارئ إلى ما يقارب خمسة آلاف سنة من الذاكرة ليفتح طاقة من الزمن نعبرها نحن أحفاده ونحمل ذات الهم وذات التفرد وذات الإرث؛ فنحن امتداد لسلالات مبدعة أحبت الحياة وأعطتها مساحة هائلة من الجمال بالفنون والمسرح والصلوات والرقص والعلوم والقوانين والمحبة، ونحن نضمحل أمام تاريخ سلالة كهذه مقارنة بما نحن فيه اليوم من تشابه وتناسخ لا معنى مثير فيه.
*أبرز الأخطاء التي وقعتِ فيها في الرواية الأولى وحرصتِ على تجاوزها في الرواية الثانية؟
**الأخطاء سترافقنا إلى آخر أعمالنا، ولكن نحاول قدر المستطاع الوصول إلى اكتمال العمل. وأبرز ما تجنبته هو الشخصنة الكاملة، حتمًا ستأخذ الشخوص بعض هفواتنا وطباعنا، لكني استطعت وضع بعض الحواجز بيننا هذه المرة، وأستطيع القول إنني اقتنصت الشخوص هنا ولم تقتنصني.
*قلتِ في حواري السابق معكِ: “الرواية تترك الكاتب بعد آخر كلمة خاليًا من المعرفة”. كيف ترمّمين ذلك بين رواية وأخرى؟
**نعم، الرواية تكرر فعل ذلك، الأمر أشبه باللوثة حيث ينصب تفكير الكاتب حول معرفة ما يخص الزمان والمكان والأبطال، أي خلق جو خاص بها بحيث تبحث وتقرأ كل ما له صلة بها، ودونها لا تراكم معرفي باتجاه محدد يصبه الكاتب في الحبكة والحدث، وحين ينتهي من كتابة آخر صفحة للعمل يفقد هذه المعلومات وهذه التفاصيل، بحيث صدقًا يُفاجأ هو إن أعاد قراءة الرواية بعد مرور وقت كافٍ للنسيان. هي لعبة دائرية تكرر نفسها وحدوثها بالكثير من المتعة.
*يغريكِ التاريخ على ما يبدو، فما يميز الروائي بقراءته للتاريخ؟
**نعم، يفعل التاريخ فعله في نفوسنا جميعًا، ربما هو امتداد الموروث الذي ينشد زمانًا وأحداثًا مختلفة تحمل في طياتها تعويضًا عن زمان لا طعم له نعيشه. أحب قراءة آثار التاريخ على ما تركته المجموعات البشرية خلفها كدليل أو كأحجية تحتمل كل الإسقاطات، فإن تقف أمام تمثال أو قلادة أو جدار مزخرف أو مشط مهجور هي رسائل ستجد داخلك أجوبة لها بغض النظر إن كنت كاتبًا أو لا، وهذا الخيال هو وحده ما يعطي للكاتب أحقية أن يسرد، ولو أسقط أحلامه ورؤيته الخاصة على حدث عابر فسينتج عملًا يهز الثوابت ويلح بالأسئلة ويراوغ أيضًا بالأجوبة..إن الوقائع التاريخية تخلق خريطة منطقية وعلمية للتاريخ، بينما السرد الروائي يعيد خلق لحظات عبرت في المكان بتاريخ ما، وإلا كيف يمكن مرورها هنا والآن؟ القص هو شباك مضيء يعطي للتاريخ مشاعر وقصص حب كبرى ويعيد معرفتنا ببعض وبالتالي بالعالم.
*بين ما هو متخيل وما هو معاش، ما الذي ينتصر في روايتيكِ؟
**لا نستطيع الفصل بين المعاش والمخيلة إلا فيما تحلق به الشخصيات على الورق بعيدًا عن أقدارنا الرمادية في انفعالاتها. نعم، هناك مشاعر مشتركة لكنها اختارت أن ترسم لنفسها دروبًا ونهايات لا تشبهني في كثير من الأحداث، لكنها في النهاية بعض ما أؤمن به.
*بين الشكل والمضمون، لمن كانت الغلبة في الاهتمام لديكِ؟
**طبعًا للمضمون، لأن المدارس والوصايا التي نملكها تسقط اعتباريًا أمام أحداث ومشاعر تتخذ في أغلب الأحيان كيانًا مستقلاً لنفسها، فهي تعتمد على تراكماتنا لكنها كعمل روائي لا تعبأ بالمسلمات السابقة، محاولةً في كل تجربة صنع درب خاص مطعَّم بكل ما تراكم من معرفة سابقة.
*ما هي أهم النتائج التي خرجتِ بها بعد كتابة روايتين على صعيد خصوصية هذا الجنس الأدبي؟
**الرواية تترك الكاتب بعد آخر كلمة فيها خاليًا من المعرفة. هي جنس أدبي يستهلك كل ما تعرفه من موسيقى ورقص وجغرافيا ومشاعر وانفعالات وتاريخ وأدب، وعلى الكاتب أن يعيد قراءة كل هذا بعين أخرى ليكتب رواية أخرى. وأنا أصدق بعد كتابتي للرواية أن الشخصيات المكتوبة تتمرد وتختار لنفسها دروبًا تناسبها ولا تخضع لمزاج الكاتب وتجاربه.
*قدمتِ روايتكِ الأولى من خلال سيرة ذاتية لامرأة، واليوم الرجل هو البطل، فهل كان ذلك مقصودًا حتى لا تتهمين أنك تكتبين كتب نسوية؟
**ربما نعم، وربما قدمت الرجل بما تتمناه النسوية، وقد يكون نضج الكتابة بعد خمس سنوات على الرواية الأولى هو ما جردني في الكتابة من التحيز. إذ أرى أن كل من جاور الأنهار استل من التاريخ بعض الطباع الموروثة كالحدة في الحب والعداء في النبل والنزق، ولذلك كانت الكتابة بثياب رجل فراتي غير متكلفة، لأنني عشت بين ثمانية ذكور فراتيون هم أبي وإخوتي، وبهم أستطيع خلق آلاف القصص والطباع والمصائر.
*كانت روايتكِ الأولى سيرة ذاتية لامرأة، فلماذا اخترتِ المرأة لتكون بطلتكِ في الرواية؟
**لأن المرأة السورية عبر التاريخ مرت بأحداث مؤلمة، ومع هذا ظلت تجيد صناعة الحياة، والرواية وإن كانت سيرة ذاتية لامرأة إلا أنها سيرة أوطان تدفع فيها المرأة الثمن مضاعفًا، إذ تبكي القتلى والمهاجرين وتنهض بأحمال وأطياف من غابوا. وأردت أن أقول في الرواية إن كانت المرأة كائنًا بالغ الرقة، لكنها بالمقابل هي من تجيد ترميم الخراب الكبير، ولها الكلمة الفصل في رأب ما تصدّع.
*هل تنتمي هذه الرواية لما يسمى الأدب النسوي؟
**أكيد، طالما هي كُتبت بقلم نسائي فهي تنتمي للنسوية شكلًا، أما من حيث الموضوع فأنا حاولت جاهدةً التصرف والتفكير بشكل ذكوري لأن البطل رجل، وبهذا أحاول ولو نفسيًا الابتعاد عن تهمة النسوية التي تصيب بعض الكاتبات العربيات.
*بدأتِ من خلال الشعر وأصدرتِ ديوانك الأول “شال المطر” عام 2015، ولكن سرعان ما اتجهتِ لكتابة الرواية.
**غواية الشعر هي الجمال والسمو فوق القبح. بين ما مررنا به من أحداث وحروب في المنطقة بشكل عام وسورية بشكل خاص، يحتاج الأمر إلى كمية أكبر من البوح والإسقاطات الجريئة والمطولة، والشعر لا يحتمل كل هذا القول والبوح، بينما تستطيع الرواية أن تفرد صفحاتها لشهادات من عبروا أحداثًا صعبة وشائكة. لقد كان الشعر بداية الطريق، وأحن إليه، وواثقة بأنه لن يهجرني، ولكن ولادة القصيدة تحتاج المرور بالكثير من التخبط والتناقضات التي قد تنتهي بنص.